بقلم: فريد بن بلقاسم انتهت الانتخابات وآلت مقاعد التمثيلية في المجلس التأسيسي إلى من وضعت فيهم قطاعات الشعب وشرائحه المتنوّعة ثقتهم وإن تفاوتت حظوتهم من هذه الثقة كما تبيّنه توزيعية المقاعد في المجلس. ولئن بدت الحملة الانتخابية قد أضاعت البوصلة التي من أجلها دعي الشعب إلى انتخابات تأسيسية تضع حجر الأساس في الجمهورية الثانية فإنّ من يفترض أن يكونوا نخبة البلاد ورموز تاريخها في المستقبل الآباء المؤسسين الذين سيشهد التاريخ لهم أو عليهم فإنّ احتمال أن يضلّوا الطريق غير وارد بل غير مفكّر فيه بالمرّة حتى وإن غلبت عليهم في أثناء الحملة الانتخابية أهواء سياسية محض حزبية لم ترتق في معظمها إلى مستوى اللحظة التاريخية التي أفرزتها الثورة وحتى إن ستغلب عليهم في المرحلة القادمة أهواء السلطة بمثيراتها ومغرياتها التي لا حدّ لها لاسيّما لمن حرم منها عقودا. في الحقيقة لم يظهر أحد من الساسة في تونس مهما كان حجمه الانتخابي زهدا في السلطة أو في شكلها الآخر الموازي لها معارضة السلطة فكلّهم أبدوا لها حماسا وتقرّبا مهما غلّفوا خطاباتهم بمبرّرات خدمة البلد وتحقيق أهداف الثورة، ولمّا كانت البلاد تحتاج حكومة ولا يستقيم حالها بدون سلطة وسلطة أخرى مضادة فقد نجد لهم عذرا، وحسبنا أن نصدّق أقوالهم راجين أن تصدقها أفعالهم، ولكنّنا وإن أخفقوا في هذه المرحلة سنجد لهم كما سيجدون هم أيضا لأنفسهم أعذارا في قلّة التجربة وفي دقّة المرحلة وفي الخراب الشامل الذي تركه العهد البائد وما تلاه من حكومات... ولكن أبدا لا يمكن أن نعذرهم نحن اليوم وأجيال المستقبل، ولا يمكن مراوغتنا بأيّ حيلة من حيل السياسيين إن هم فشلوا في مهمّتهم الأصلية التي انتدبوا لها بتفويض من الشعب وهي مهمّة التأسيس للجمهورية القادمة جمهورية تقطع فعليا وحقيقيا مع نمط من الحكم ثبت فساده ذلك النمط القائم على حكم الحزب الواحد الذي يقوده حاكم «معصوم من الخطإ» ويغيّب الشعب تماما لا في اختيار حكامه فقط وإنّما في تحديد ما يصلح له من السياسات وما ينفعه من البرامج في مختلف شؤون الحياة بل وتُسلّط عليه أنواع من القهر ويُسام نخبه ألوان من القمع حتى أصبحت البلاد أشبه بصحراء قاحلة. وكما ساءنا أن يؤول نضال رجالات الحركة الوطنية وبناة الدولة الوطنية الحديثة إلى دولة فساد واستبداد فإنّنا لا نرضى للمناضلين ضدّ الفساد والاستبداد، حتى وإن كانت مساهمتهم المباشرة في الثورة محدودة إن لم نقل منعدمة، أن يلقوا المصير ذاته إن هم لم يُحكموا البناء وحادوا عن أهداف رسموها من وحي الثورة. ولم نجد في واقع الأمر عند أغلبهم ما يشي بأنّهم لم يستفيدوا من كوارث الحقبة السابقة، ولكنّهم لعلّهم يدركون أنّنا لدغنا من جحر الوعود الكبيرة الزائفة مرّتين مرّة مع الزعيم المخلّص من براثن الاستعمار أُمّن على إنشاء الدولة الوطنية ذات النظام الجمهوريّ فأنجز ما أنجز من خير، ولا ينكر ذلك من يقرأ التاريخ بإنصاف، ولكنّ السلطة أغوته فتشبّث بكرسيّ ورثه، بعد أن سدّ الطريق أمام انتقال ديمقراطي للسلطة، جاهل ظالم أفسد البلاد وملأها ظلما وجورا رغم ما وعد به من إصلاح في بيان كلّما قرأته لا تمسك نفسك على الانبهار به ولكن شتان بين ما خُطّ في الورق وبين ما دُبّر في الواقع بل لقد كان ذلك البيان قناعا لاستبداد جثم على البلاد والعباد لأكثر من عقدين من الزمن. فهل يمكن أن نأمن الوعود مرّة أخرى؟ وهل يمكن أن نثق بأيّ كان -حتى ولو أظهر من النوايا أطيبها-مرّة أخرى؟ إنّ المطلوب من الآباء المؤسسين أن يكون لهم وضوح الرؤية وصفاؤها وأن تبنى منهجيتهم على نظرة استشرافية بعيدة المدى وألاّ تغلبهم إلحاحية اللحظة وتكتيكات السياسة والتحزّب الرامية إلى الإمساك بالسلطة والوصول إلى كرسيّ الحكم. ويقتضي ذلك في تقديرنا: - أن يؤمنوا إيمانا عميقا وفعليّا أنّ العمل التأسيسي يقتضي جهدا مشتركا وعملا تعاونيا لا حساب فيه لأغلبيات أو أقليات عددية ولا منطق فيه لسلطة ومعارضة وأن تكون أياديهم ممدودة وقلوبهم مفتوحة متذكّرين دوما أنّهم جميعهم يمثّلون الشعب التونسي في تنوّعه وتعدّده وأنّ اختلافهم رحمة وخلافاتهم نقمة وأنّ من انتخبهم منهم يتعلّم آداب الحوار ومتعة الاختلاف البنّاء وأنّهم مثلما يكونون هم يكون من انتخبهم، وأنّ إدارتهم لاختلافاتهم لهي أولى خطوات التدرّب على الديمقراطية بالنسبة لهم وللشعب. - أن يدركوا أنّ للديمقراطية المنشودة أشكالا لنا أن نختار منها ما يلائمنا، ومارسنا واحدا من أهمّ إجراءاتها وهو الانتخاب، ولكنّنا نروم أن نرسي قيم الديمقراطية المتمثلة في أنّ الحرية قيمة للجميع لا قيود عليها بل تحكم ممارستها قواعد قانونية متفق عليها، وأن يكون المواطنون سواسية بغض النظر عن فوارق المعتقد والجنس واللون، وأن توجد قوانين تطبّق على الجميع وبحياد، وأن تخضع الحكومة لإرادة المحكومين وهو ما يكفل إقامة نظام سياسي يرتكز على المؤسسات وحكم القانون ويرسّخ مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني وحرّية التعبير والتعدّدية والتداول السلمي الفعلي على السلطة باعتبارها قواعد الحياة السليمة وهو ما يضمن مناخا اقتصاديا يقوم على مبادئ الشفافية ومحاربة الفساد والتوزيع العادل للثروات. إنّ مسؤوليتكم اليوم كبيرة وهي من صنف الأمانات التي تشفق منها الجبال ويحملها الإنسان، وإنّ مسؤولية التأسيس أكبر إذ تنازعتها أهواء السلطة من جهة ومهمّة كتابة التاريخ ودخول أبوابه من جهة أخرى، فهل يمكن لمن نحسبهم الآباء المؤسسين للجمهورية الثانية أن يترفّعوا عن انتماءاتهم الحزبية وإغراءات السلطة والسلطة المضادّة وأن يسموا فوق اللحظة التاريخية بإكراهاتها شاخصين للمستقبل البعيد ليعدّوا لنا وللأجيال القادمة دستورا يبني ديمقراطية مستقرّة؟ ولكن هل يمكن أن يترك الأمر عهدة بين أيديهم فقط دون أن يكون لسائر أطياف المجتمع من منظمات وجمعيات و شخصيات مستقلّة دورها حتى لا نلدغ من جحر مرّة أخرى لاسيّماأنّ هذه الأحزاب لم تضرب لنا مثلا في الديمقراطية وهي التي يحتفظ بعضها بزعاماته التاريخية في مستوى القيادة الفعلية منذ فترات طويلة فكيف يؤمن جانب من لا يرى لنفسه بديلا في حزبه فما بالك إن تولّى منصبا في السلطة؟ فأحزابنا الوطنية المدعوّة لبناء الديمقراطية في البلاد مدعوّة وبإلحاح للممارسة الديمقراطية داخلها حتى تعطي الدليل المحسوس على حسن نواياها؟