غياب معطيات رسمية حول مؤشرات الاستهلاك خلال عيد الإضحى المنقضي فإن الانطباعات الحاصلة لدى عموم الناس ولدى ذوي الخبرة والفاعلين الاقتصاديين تقول بأن هناك تراجعا ملحوظا في الاستهلاك وخصوصا في اقتناء الأضاحي. فحسب معاينات ميدانية لفضاءات بيع العلوش أكدّ الجميع أن هناك تراجعا واضحا في الاقتناءات كان وراء تراجع مذهل للاسعار الى حدّ أصبحت فيه نقطة البيع التي أحدثتها شركة اللحوم للبيع بالميزان أرفع أسعارا ممّا يعرض في بقيّة الفضاءات رغم أن الغاية من إحداثها كانت لتعديل الاسعار والعمل على الضغط عليها وجذبها الى حدود تراعى فيها امكانيات المستهلك. ولم تُستثن الفضاءات التجارية الكبرى والمحلات التجارية ومحلات الجزارة من هذا التراجع المذهل في الاستهلاك فالجميع شعروا بانكماش الاستهلاك ولم تُجدِ الإغراءات المعتمدة لحثّ عموم الناس على اقتناء المعروضات نفعا كما لم ينفع تقديم صرف المرتبات لموظفي وأعوان الدولة في تحريك دواليب الاقتصاد على النسق الذي اعتدناه خلال الاعياد المنقضية. وبعبارة بسيطة فإن رائحة العيد لم تفح هذه السنة كما اعتدناها في السنوات المنقضية.. مدير فرع بنكي عبّر لي باستغراب عن تراجع الحركية لا على مستوى فرعه فقط بل ببقية الفروع وبشتى البنوك مؤكدا أنه لم يشهد هذا التراجع منذ سنوات طوال رغم أن عيد الإضحى ظلّ لدى التونسي من المقدسات التي وجب إيلاؤها العناية الدنيا المطلوبة. نأتي الآن الى الدواعي والاسباب ورغم أني لا أحتكم على كل المعطيات الموضوعية التي تقود الى تفسيرات علمية-اقتصادية لهذا التراجع فإن المؤكد أن عديد العوامل فعلت فعلها وأثرت بشكل واضح على ميزانيات العائلات التونسية وبدأت شيئا فشيئا تغيّر المفاهيم وتعدّل ترتيب الأولويات.. أول العوامل يمكن أن نقول عنها بأنها ظرفية اختارتها الصدفة كي تحلّ في مواعيد متقاربة.. إذ تزامنت العودة المدرسية مع حلول شهر رمضان وهو ما أضرّ بشكل واضح بالميزانية العائلية التي بسبب الارتفاع المتواصل للاسعار على امتداد الاشهر التي سبقت وبسبب ارتفاع كلفة تجهيز التلميذ لدخول المدرسة لم تعد تتوفر للعائلات الإمكانيات للانفاق.. لذلك مرّ رمضان بلا طعم ولم تشهد الاسواق ضغطا يذكر. ثاني العوامل هو ارتفاع أسعار العديد من المواد الاستهلاكية الضروري منها والكمالي الذي أصبح بتطور الاستهلاك ضروريا على غرار كلفة الاتصالات.. فارتفاع أسعار المحروقات وعديد المواد الأولية في الاسواق العالمية أنعكس سلبا على واقع الاسعار محليا بحيث لم تعد الأجور قادرة على تلبية كل المتطلبات.. لذلك يبقى الاهتمام مركّزا على الحاجات الاساسية ومن الحاجات الأساسية التي يجب أن توفّرها كل عائلة هي قِدْرُ الطعام مهما كان محتواه وهي كذلك التنقل والانارة والماء والتدفئة بحلول فصل الشتاء وهنا تجدر الإشارة الى أن الطبقة المتوسطة الدخل- تلك التي ليس لها امكانيات العائلات المترفهة رغم أنها تنتمي للطبقة الوسطى- أصبحت تعاني كثيرا من الارتفاع المذهل لأسعار البترول الأزرق الضروري للتدفئة ولأسعار قوارير الغاز في غياب الغاز الطبيعي بجل الأحياء وبعديد المدن وبكلفة فواتير الكهرباء والماء التي ما أنفكت ترتفع..وأصبحت تعاني كذلك من كلفة أسعار النقل لارتفاع أسعار المحروقات وزادت كلفة الاتصالات طينها بلّة خصوصا بعد أن فرض قانون المالية أداء تصاعديا على كل شحن ..ولن نتحدث عن أسعار المنتجات الفلاحية التي ما انفكت ترتفع لاسباب لا فائدة من العودة اليها. ثالث العوامل هو ارتفاع كلفة التعليم رغم مجانيته وايلاء العائلات أهمية خاصة لتعليم أبنائها وضمان المراتب الأولى لهم علّهم يحظون بعد الباكالوريا بالتوجيه الجامعي الذي يؤمن لهم إثر التخرّج الشغل.. كلفة التعليم هذه تتضح أثارها بشكل واضح في الدروس الخصوصية التي تعددت لتشمل حتى الرياضة.. ولئن كان الأولياء ينفقون بسخاء ليتخرج أبناؤهم فإن بطالة خريجي الجامعات جعلتهم ينفقون عليهم حتى بعد التخرج.. ولكم أن تتصوروا حال وليّ دفع شقاء عمره ليتخرج إبن له أو اكثر ثم يشاهده قابعا في البيت كأنه جزء من أثاثه الذي لا يصلح لشيء.. ولكم أن تتصوروا أيهما أفضل له اقتناء كبش العيد أو تمكينه من مصروف جيب أو من تذكرة سفر ليجرّب حظه في الخارج. إذن عديدة هي العوامل التي كانت وراء الانكماش الحاصل على مستوى الاستهلاك في فترة عيد الإضحى.. وهي مؤشر واضح على تغيّر الأولويات الاستهلاكية لدى المواطن كما أنها مؤشر على أن عهد الانفاق بسخاء وعهد قروض الاستهلاك في تراجع وأن القادم أصعب.. لذلك فالمطلوب اليوم البحث في المسألة بأكثر عمقا والعمل في الآن نفسه على تخفيف العبء عن «بو العيلة» قدر الامكان.