"القلب يوجع والكبدة مشوية".. "لا إطعمنا نوم ولا فرح ولا رمضان ولا عيد وأولادنا مفقودين.. لا نعرفوا حيين وإلا ميتين".."صمت رهيب من الحكومة المؤقتة والقنصلية التونسية ببلارمو ضاعفت من مأساتنا".. "أين أبناؤنا".. "يا حكومة وين وين أولادنا المفقودين".. كلها عبارات ظلت مئات العائلات التونسية من مختلف مناطق الجمهورية.. من القصرين .. من رأس الجبل.. من جرزونة.. من حمام الأنف.. من الهوارية.. من جبنيانة.. ومن عدة مدن وولايات أخرى ترددها منذ عدة أشهر بعد تقطع السبل أمامها وعجزها عن الاتصال بأبنائها الذين"حرقوا" إلى إيطاليا خلال الربيع الفارط وعجز الحكومة المؤقتة وخاصة مصالح وزارة الخارجية وقنصلية تونس ببلارمو عن فعل ملموس يضع حدا لهذه المأساة. إعداد: صابر المكشر
فعدد كبير من أبنائنا التونسيين استقلوا مراكب الموت ل"الحرقان" إلى إيطاليا هربا من جحيم البطالة والفقر والتشرد الذي عانوا منه لسنوات في ظل حكم المخلوع وعصابته وبحثا عن مستقبل أفضل يؤمنون به حياتهم.. ولكن بعض هذه الرحلات لم يعرف مصيرها بعد في ظل الاختفاء الغامض لمئات"الحارقين" وعدم اتصالهم بعائلاتهم والأداء المتذبذب للقنصل التونسي ببلارمو الذي ضاعف من معاناة هذه العائلات حسب ما أفادنا به عدد كبير من آباء وأمهات المفقودين، إذ أكد لهم سابقا ان أربعة مراكب تقل 126 حارقا تونسيا(16+32+54+24) وصلت يوم 2 مارس الفارط إلى سواحل لمبدوزا او بانتالاريا وكلهم في صحة جيدة رغم ان أحد هذه المراكب تعطب أثناء الإبحار خلسة ولكن السلط البحرية الإيطالية أنقذت راكبيه ال 32 بينهم قاصر لا يتجاوز عمره التسع سنوات(حديث مسجل للقنصل التونسي ببلارمو على الأنترنات) ولكن فيما بعد لم تتمكن عائلاتهم من معرفة مصيرهم وظلت تتساءل في حرقة(ما دامهم حيين وينهم؟) ولكن القنصل التونسي ببلارمو لا يملك إجابة شافية في ظل"التقنية" التقليدية والبسيطة التي اعتمدها في البحث عن المفقودين والمتمثلة في الهويات والصور، والحال كان يفترض منذ البداية أن يعتمد"تقنية" البصمة لتأكيد أو نفي وجود"الحارقين" بالمعتقلات وذلك بالتنسيق بين مصالح وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الخارجية التونسيتين ووزارتي الداخلية والخارجية الإيطاليتين، باعتبار أن الهويات التي يدلى بها"الحارقون" عادة ما تكون وهمية كما ان الصور لا يمكن ان تكون تقنية صحيحة مائة في المائة.
عائلات بعض المفقودين في دار "الصباح"
بعد تنسيق بيننا وبين التونسية"ريبيكا" المقيمة بإيطاليا والتي تطوعت للبحث عن المفقودين التونسيين هناك وبين عماد السلطاني شقيق أحد المفقودين كان اللقاء نهاية الأسبوع الفارط بدار "الصباح" والذي جمعنا بعدد من أمهات وآباء وأشقاء عدد من أبنائنا المفقودين بإيطاليا منذ نحو ثمانية أشهر.. كان الألم يعصف بقلوب الجميع.. يتراءى لك بين أعين الجميع وعلى ملامح الجميع.. امهات تبكين في صمت.. آباء ينتظرون مجرد معلومة وإخوة يلهثون وراء خبر يقين بوجود إخوتهم على قيد الحياة.. فالقاسم المشترك بين هؤلاء هو البحث عن فلذة الكبد.. الوصول إلى حقيقة تحدد مصير أبنائهم وإخوتهم الذين"حرقوا" إلى إيطاليا أثناء موجة"الحرقان" التي عرفتها سواحلنا بعد الثورة وتحديدا بداية من غرة مارس الفارط. فوالد المفقود كريم مباركي أكد أن ما لا يقل عن 684"حارقا" تونسيا مازالوا في عداد المفقودين واستشهد بقائمة أرسلتها وزارة الخارجية الإيطالية إلى نظيرتها التونسية بتاريخ 10 أفريل 2011 تشير إلى وصول 684 مهاجرا تونسيا بطريقة غير شرعية إلى السواحل الإيطالية غير أن مصير هؤلاء مازال مجهولا، مشيرا على سبيل الذكر أن ابنه كريم مباركي موجود اسمه بالكامل في هذه القائمة التي قيل أنها ل"حارقين" وصولوا إلى اليابسة ولكنه لم يتصل بعائلته بعد ليؤكد أنه حي يرزق رغم ان كل الدلائل تشير إلى أنه على قيد الحياة. وهنا تدخلت زوجته وأكدت انها شاهدت ابنها على شاشة التلفاز في أخبار القناة الإيطالية الخامسة يستقل رفقة مجموعة من رفاقه مركبا أثناء اقترابهم من اليابسة، وأضافت انها تحصلت على التسجيل المصور وتأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن ابنها هو ذاته الموجود في التقرير المصور لأخبار القناة الخامسة الإيطالية خاصة انه كان يحمل ذات الملابس.
أمهات شاهدن أبناءهن
نفس السيناريو تكرر مع عدد من الامهات من بينهن والدة صبري الصولي ووالدة رامي الغريسي ووالدة محمد العابد اللاتي أكدن أنهن شاهدن أبناءهن في تقارير إخبارية إيطالية ولكن منذ ذلك الوقت لم يعرفن مصيرهم ولا يعلمن أين تم نقلهم. وأعلمتنا والدة أحد المفقودين ويدعى زياد انها شاهدت تسجيلا مصورا بتاريخ 24 أفريل الفارط يظهر فيه إبنها رفقة نحو مائة تونسي يفترشون الأرض بالقرب من البحر ويحيط بهم أعوان الأمن، مضيفة أن ابنها كان أثناء التسجيل يحمل ذات الملابس التي غادر بها البيت قبيل مشاركته في عملية اجتياز الحدود خلسة.
"العين بصيرة واليد قصيرة"
إلى ذلك أفادتنا ليلى حمدي أن شقيقيها زياد حمدي(من مواليد 1981) ومحسن حمدي (من مواليد 1983) أبحرا خلسة رفقة عدد من الشبان يوم 29 مارس الفارط انطلاقا من سواحل سيدي منصور فيما أفاد شقيق المفقود رياض الجنحاوي أنه (من مواليد 19 أفريل 1983) شارك في عملية"حرقان" في حدود الساعة الخامسة من صباح يوم 14 مارس الفارط رفقة أربعة من أبناء حيه وعدد آخر من الشبان انطلاقا من سواحل جبنيانة. وأشارت شقيقة المفقود رمزي الولهازي انه (26 سنة)"حرق" رفقة 21 شخصا من سواحل الهوارية يوم غرة مارس 2011 وقد اتصل زوج شقيقتها بعد نحو ثلاثة أشهر بالقنصلية التونسية ببلارمو وسلمهم صورة رمزي فطمأنه المسؤولون ووعدوا بأن يتصلوا به ولكن تلك الوعود ظلت واهية ولم تتلق العائلة أي اتصال إلى اليوم. وقال شقيق المفقود أمين صالح أنه (25 سنة) أبحر خلسة من سواحل سيدي منصور يوم 29 مارس الفارط ولكن لم يتسن إلى اليوم معرفة مصيره شأنه شأن مئات الشبان التونسيين الذين ركبوا قوارب الموت حاملين أحلامهم بتكوين مستقبل أفضل... رحلات مجهولة
تعددت الرحلات غير الشرعية أثناء موجة"الحرقان" التي شهدتها السواحل التونسية بعيد الثورة بسبب الانفلات الامني والرغبة الجامحة في الهجرة إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط ولكن ذلك لم يمر دون ان يخلف الألم والحيرة لآن مئات"الحارقين" التونسيين مازالوا في عداد المفقودين ومن بينهم هؤلاء الذين أبحروا خلسة أيام غرة مارس و14 مارس و29 مارس 2011 رغم أن عددا كبيرا منهم شوهد في التقارير الإخبارية التلفزية على القنوات الإيطالية لدى وصولهم إلى إيطاليا وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول ملابسات هذا الاختفاء لذلك يواصل أهالي المفقودين"كفاحهم" من أجل الوصول إلى الحقيقة وكشف سر هذا الاختفاء، لذلك طرقوا كل الأبواب آخرها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
البصمة
ونظرا لعجز السلطات التونسية ببلارمو امام هذا الإشكال نادى أهالي المفقودين بضرورة اعتماد البصمة لتحديد مصير أبنائهم، وهنا قال عماد السلطاني شقيق أحد المفقودين:" بما أن السلطات الإيطالية تأخذ بصمات كل المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى أراضيها وحتى نجنب انفسنا التعب أناشد وزارة الخارجية التونسية ان تنسق مع مصالح وزارة الداخلية قصد الحصول على بصمات"الحارقين" المفقودين ممن يملكون بطاقات التعريف الوطنية وإرسالها إلى وزارة الخارجية الإيطالية التي تسلمها بدورها إلى وزارة الداخلية الإيطالية قصد التأكد بصفة قطعية من دخول صاحب البصمة المعنية التراب الإيطالي أو لا".