وسط أجواء عامة غلب عليها الإهتمام بالشؤون السياسية في البلاد، وانصرف فيها الجميع إلى الحديث عن هذا الشأن واستحقاقاته، وما تخفيه الأيام القادمة من جديد في هذا الشأن، تعالت صيحات المواطنين وتذمراتهم من الارتفاع المشط المسجل في أسعار المواد الاستهلاكية اليومية من خضر وغلال على وجه الخصوص، وغيرها من أنواع المواد التي تمثل حاجة المواطن وأفراد عائلته ضمن "قفته" اليومية أو الأسبوعية. هذا الارتفاع في الأسعار شمل تقريبا الخضر بجميع أنواعها ورقية أوغيرها، فصلية أوغير فصلية، كما طال على وجه الخصوص كافة أنواع اللحوم البيضاء منها والحمراء، وشمل في ذات الوقت كافة أنواع مواد التنظيف وغيرها من المواد الاستهلاكية. ومثل ذلك مظهرا عاما شمل كل جهات البلاد، ونقاط البيع المراقبة منها أو التي ظهرت مع الانفلات العام الذي شهدته البلاد بعيد اندلاع الثورة، والغياب شبه التام لكل أنواع المراقبة الاقتصادية، ولم تخف حتى الأوساط الرسمية وفي مقدمتها وزارتا الفلاحة والتجارة طفرة ارتفاع الأسعار التي ظهرت ومثل ارتفاعها نسقا لم تعرفه البلاد بمثل هذا المستوى، خاصة وسط نسق شبه منعدم في النمو الاقتصادي.
الأبعاد الأساسية في ارتفاع نسق الأسعار
مصادر وزارة التجارة أفادت أن ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية اليومية، وخاصة منها الخضر والغلال واللحوم بجميع أنواعها يعود إلى جملة من الأسباب، بعضها ظرفي جاء نتيجة الصعوبات المناخية وتقاطع الفصول والبعض الآخر فرضته عوامل كانت قد مرت بها البلاد مثل الانفلات الأمني وغياب المراقبة والتزويد غير المنتظم، وظهور الأسواق الموازية، والتصدير العشوائي. وأبرزت أن هذا الارتفاع في الأسعار يبقى ظرفيا، وهو لم يمس حسب المؤشرات الاقتصادية التي ظهرت لحد الآن جملة المواد المدعومة وخاصة منها الخبز وكافة أنواع العجين، بل أن هذه المواد وقع السعي إلى المحافظة على نسق التزويد بها ودعمها بشكل مطرد رغم ما شهدته أسعارها من ارتفاع في الأسواق العالمية على غرار مادة السكر على وجه الخصوص وجملة الأسباب التي أبرزتها وزارة التجارة وإدارات المراقبة التابعة لها - لئن تبقى من بين الأسباب التي ساهمت في ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية-فإنها لا تعكس وحدها وجه الحقيقة في هذا الجانب، بل إن الأسباب العميقة في ذلك تعود إلى عوامل أخرى متجمعة نذكر منها على وجه الخصوص: غياب كافة أنواع المراقبة داخل الأسواق البلدية والأسبوعية: وفي هذا الجانب تحولت عروض مواد الخضر والغلال واللحوم إلى ما يشبه السوق الحرة التي يفرض فيها التاجر شروطه على المواطن سواء على مستوى الأسعار التي يحددها أو طرق العرض وما تكتنفه من تقتير واحتكار وعرض مواز وغيرها من أساليب الربح غير المشروع، حتى إن أنواعا من الخضر مثل البطاطا والفلفل والبصل والجزروالخضر الورقية ( سلق ومعدنوس وكلافس) قد فاقت أسعرها الخيال، وأصبح ترويجها لا يخضع لاي شرط من شروط السوق. اختلال العرض والطلب وهو أمر آخر شابه الغموض وغاب فيه مبدأ التعامل السليم، حيث أنه علاوة على النقص المسجل في مجال التزويد لا بسبب تراجع الانتاج، بل تحت مظاهر الاحتكار، وهو أمر يتعارض مع القانون العام في تجارة الخضر والغلال الذي يخضع في أوجه نشاطاته إلى المرور بأسواق الجملة، ويحجر المتاجرة به بشكل مواز. وهذا الجانب مثل مظاهر انفلات كبير بظهور أسواق موازية للخضر والغلال في كافة الجهات، وانتصابا عشوائيا غابت معه المراقبة وانفلتت داخله أسعار هذه المواد.
تحرير الأسعار.. لكن بأي ثمن؟
وتعلل المراقبون والمسؤولون عن القطاع التجاري بمبدإ تحرير الأسعار لكافة أنواع الإنتاج الفلاحي، وذكر في هذا الجانب جملة المواد المنتجة غير الخاضعة لتسعيرة مسبقة مثل الخضر والغلال واللحوم بكافة أنواعها والبيض، ووقع تحميل مسؤولية ارتفاع الأسعار إلى الفلاح. غير أن الحقيقة تبقى كامنة في أسباب أخرى يبقى الفلاح في منأى عنها، وهنا يمكننا العودة بالأساس إلى مسالك التوزيع وتشعبها وتكاثر المتدخلين فيها، وما يترتب عن ذلك من توظيف وزيادة في ربح كل طرف من هؤلاء، ليكون سعر المادة في آخر المطاف باهظا جدا بالنسبة للمستهلك، وتراه يدفع بالتالي وفي آخر الأمر ضريبة ارتفاع الأسعار. وهذا الجانب المتمثل في تشعب مسالك التوزيع وكثرة المتدخلين وأيضا وعلى وجه الخصوص الآداء البلدي الموظف قاد إلى النفور من أسواق الجملة وخلق نشاطا موازيا في مجال بيع الخضر والغلال وكافة أنواع المواد الفلاحية تقريبا وجعل معظم تجار التفصيل يعتمدون أساليب تزويد لا تمر بأسواق الجملة، وقد أبرزت مصادر من وزارة التجارة استفحال هذه الظاهرة بشكل أصبحت معه نسبة معروضات هذه المواد التي لا تمر عبر المسالك الرسمية تفوق 70 في المائة من الإنتاج والمعروضات اليومية من هذه المواد. ولعل ما يمكن إبرازه على وجه الخصوص في أسباب ارتفاع أسعار هذه المواد، وعدم إمكانية مراقبة السوق والضغط عليها، هو الغياب شبه التام للمراقبة الاقتصادية والبلدية، وهو أمر ترك الحبل على الغارب طيلة الأشهر الماضية، وفسح المجال إلى جملة من أنواع الاحتكار والمضاربات، وأدى أيضا إلى مظاهر التصدير العشوائي الذي زاد في ارتباك الأسواق مع بعض أنواع المواد مثل الحليب والبيض والسكر التي شهد عرضها ارتباكا خلال الأسابيع الأخيرة.