في الوقت الذي تتسابق فيه الكتل السياسية الفائزة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتسابق الوقت للتوافق على خارطة طريق واضحة للمرحلة المقبلة، والاتفاق على برنامج الحكومة القادمة... كانت المفاوضات السياسية الجارية والمتواصلة بشكل شبه يومي ومنذ اسابيع محل اهتمام الراي العام الوطني ومادة اعلامية دسمة تغري وسائل الإعلام التي لا تترك الفرصة تمر دون تلقف تصريحات الزعامات السياسية لهذا الحزب او ذاك بالنقل او التحليل او التعليق.. ويلاحظ المتتبعون للمشهد السياسي في تونس ما بعد انتخابات 23 أكتوبر لخبطة في مواقف بعض السياسيين وارتباكا لدى آخرين، وتناقضا في التصريحات الإعلامية لدى بعض الساسة رغم انتمائهم لنفس الحزب او التيار السياسي، وغموضا في مفردات الخطاب السياسي الحزبي لهذه الكتلة السياسية او تلك، ونفي تصريح زعيم حزبي يقابله تأكيد لذلك التصريح في اليوم الثاني..وهكذا.. وتنبع تلك اللخبطة من عدم تملك رجال السياسة في تونس لخطة اتصالية واضحة تساعدهم على تفادي الانزلاق نحو الارتجال السياسي والثبات على الموقف السياسي، وتضع له الحد الفاصل بين رجل الدولة ورجل الحزب وكيفية التفريق بينهما..حسب ما يؤكده مختصون في علم الاجتماع السياسي وفي فن التواصل والاتصال الجماهيري..
مشهد سياسي مربك لكنه صحي..؟
هذا المشهد السياسي المربك ورغم انه ظاهرة صحية، وله تداعيات ايجابية، وناتج عن التعددية الحزبية والسياسية في بلادنا التي دخلت في مرحلة بناء مجتمع دميقراطي متعدد يحترم فيه الراي والراي المخالف...لكنه أدخل في المقابل الراي العام في حيرة من أمره نتيجة الغموض الذي يلف مفاوضات الساسة المتهيئين لمسك السلطة. وحسب خبراء في علم الاجتماع وفي علوم الاتصال والإعلام، فإن المرحلة الجديدة التي تمر بها بلادنا تختلف عن المرحلة التي سبقت الانتخابات على اعتبار ان المرحلة الجديدة تتعلق بمعرفة توجهات السلطة الجديدة المنبثقة عن صندوق الانتخاب، مما جعل الراي العام في حالة ترقب دائم ومتحفز ومتعطش لمعرفة المزيد.. ويقول محمد الجويلي المختص في علم الاجتماع في هذا الصدد أن مرحلة ما بعد الفوز في الانتخابات مربكة خاصة للسياسيين الذي فازوا في الانتخابات، يشوبها فرح ونشوة بالانتصار ولكن في نفس الوقت وعي بالتحديات القادمة، وهذا ما يجعل الزعماء السياسيين في حالة من الارتباك، إذ أن الملاحظ للمشهد السياسي يميز بين خطابات سياسية ذات نزعة انتصارية تقابلها خطابات تعبر عن تخوف من التحديات..
من خطاب الحملة الانتخابية إلى خطاب بناء الحكومة
فالزعامات السياسية حسب الجويلي انتقلت من خطاب الحملات الانتخابية إلى خطاب بناء حكومة وشرعية سياسية جديدة، لكن بعض الساسة لم يدركوا بعد أن لكل خطاب سايسي نواميسه وآليات اتصالية خاصة به، مشيرا إلى أن بعض الزعامات السياسية غير متعودة على التطرق في خطابها إلى مسائل ضمن سياقات معينة واعطائها البعد الإعلامي الذي تستحق، ويظهر ذلك في خطابها وهو ما يفسر وقوعها في زلات لسان ومواقف مربكة..وهو ما يؤكد فكرة صعوبة التحول من موقع رجل حزب إلى موقع رجل دولة بالنسبة لعدة زعماء سياسيين فازت احزابهم بأكثر مقاعد في المجلس التأسيسي. ووصف الجويلي الوضع الراهن بالنسبة للسياسيين خاصة منهم الذين يستعدون لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة بخروجهم من بقايا حملة انتخابية، إلى فوز في الانتخابات، وخوفا من تحديات المرحلة، مع وجود خصوم سياسيين منهزمين اخذ البعض منهم موقع المعارضة وآخرون في وضع المتربص والمراقب لخطوات غرمائهم، فضلا عن تزايد الضغوطات الخارجية التي تزيد في ارباك الوضع.. ويوضح الجويلي أن الفرق بين فترة الحملات الانتخابية والفترة الحالية، هو أن الحملة الانتخابية تتميز بكون كل ناخب او مواطن يستطيع أن يسمع الخطاب الذي يروق له، او الخطاب الذي يرضيه ويتماشى معه، لكن بعد الانتخابات الأمر تغير، فالعيون مركزة على من سيكون بالحكومة ومن سيمسك بزمام السلطة، وكأن الراي العام يتعرف اليهم لأول مرة، وهو ما يجعلهم في موقع ضغط مسلط عليهم من عدة اتجاهات، فلم يعد رجال الساسة "الجدد" الذين فازوا في الانتخابات يطلقون كلام وعود، بل كلامهم اصبح يأخذ مأخذ الجد ويحاسبون عليه.
حذق الخطاب السياسي
ويشير محمد الجويلي أن الفترة الحالية تتطلب نوعية جديدة من الخطاب تتطلب فهما للسياق الجديد، والتحسب لكل كلمة او عبارة قد تخرج عن السياق التي وضعت من اجله، وهذا يعني ان يتحمل السياسي المؤهل لممارسة الحكم والسلطة في موقع المسؤولية، وهو ما يستدعي منه اداءا اعلاميا جيدا..وقال إن المرحلة الحالية هي مرحلة بناء الشأن العام، اي أن كل كلمة تخرج عن سياقها تربك الراي العام، والخصوم السياسيين متحفزين لاستغلال اخطاء غرمائهم وتسويقها اعلاميا واتصاليا.. لكن الوضع الحالي مع ذلك يعتبر ايجابيا، لأن المناخ التعددي وحرية التعبير والصحافة ساهمت في خلق أفعال وردود افعال، وفكر وفكر مضاد لم نتعود عليه طيلة 23 سنة، المهم أن لا يؤدي إلى مأزق سياسي في الحكم. ويضيف محدثنا على أن زعماء السياسة الذين يتهيؤون للحكم يحتاجون لرؤية الآخر، والانتباه إلى ما يذكره الآخر عنهم، كما يحتاجون إلى المنافسة السياسية بل اكثر من ذلك قد يحتاجون إلى العدو، المهم أن يكون لهم بوصلة وذكاء سياسي قادر على تخطي الأزمات وتجاوز الارباكات وحسن التعامل والقدرة على السيطرة على اخطائهم وزلاتهم..
عثرة اللسان قد تكون قاتلة
أما صلاح الدين الدريدي الإعلامي والخبير في علوم الإعلام والاتصال فقال معلقا على تكرر الأخطاء في المواقف وفي خطابات السياسيين في الفترة الأخيرة "في السياسة عثرة اللسان قد تكون قاتلة". وأضاف : "نحن في حالة فلتان اعلامي واتصالي فبعد ما كانت الدولة تتحكم في الكلام والقول تغيرت مراكز القوى في المجتمع وأطلق العنان للكلمة الحرة، وهي ظاهرة صحية فالمجتمع تحول من الكلمة المكبوتة إلى الكلمة المحررة". وأكد الدريدي أن القوى السياسية الجديدة مثل حركة النهضة وحزب التكتل وحزب المؤتمر تفتقر إلى منظومة اعلامية واتصالية واضحة. وبين أن خطأ حمادي الجبالي امين عام حركة النهضة أخطأ مثلا في خطابه الشهير الذي ذكر فيه مصطلح "الخلافة الراشدة " من غير أن يقوم بتبريرها وتحضيرها اعلاميا واتصاليا، فكان لها وقع شديد سيئ على الساحة السياسية، وزادت في ارباك الوضع. وقال :" كل كلمة او عبارة تصدر عن رجل السياسة لها وزن خاص فهي "كلمات ليست كالكلمات"، وكل كلمة غير موزونة يمكن ان تخلق مشكلا ويمكن ان يتفاعل معها الراي العام بطرق مختلفة"..
ضعف الثقافة الاتصالية
فبعض رجال السياسة الجدد تميزت تصريحاتهم السياسية بالارتجالية، فسمير بن عمر عضو المكتب السياسي لحزب المؤتمر نفى تصريحات نسبت لمنصف المرزوقي زعيم الحزب والمرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية في صحيفة لبنانية، لكن هذا الأخير عاد ليؤكد تصريحاته ويبررها ويضعها في سياقها الصحيح..لكنه فاجأ الجميع بتوعده غير المبرر بوضع شروط معينة على الإعلاميين في اي تصريح مستقبلي..وهو ما يدل على أن حزب المؤتمر لم يتحضر اتصاليا واعلاميا للخروج من هذا المأزق ولا يملك تقنيات الخروج من الأزمة، بل وقع في أزمة اتصالية وإعلامية جديدة. بالمقابل لم يخرج القطب الحداثي مثلا عن صمته الا للرد على تصريحات حمادي الجبالي فكانت لهم فرصة لإعادة التموقع والتشكل من جديد. ويقول الدريدي في هذا السياق أن على كل سياسي أن يعي ما يقوله في كل حديث او تصريح يدليه مع وسيلة اعلام ويتحمل مسؤوليته في ذلك، والتعامل بجدية مع وسائل الإعلام والاتصال على قاعدة الاحترام المتبادل.. ولاحظ أن بعض السياسيين ليست لديهم ثقافة اتصالية واعلامية سواء قبل الثورة او بعدها، كما أن بعضهم ما يزال يعتقد أن الإعلام يجب أن يكون عجلة خامسة يمكن التحكم فيها متى شاؤوا. وأكد الدريدي على أهمية أن يعي رجل السياسية قيمة الكلمة التي يختارها ووزنها وقيمة المصطلح وأبعاده، فجل الزعماء السياسيين وقعوا في اخطاء اعلامية واتصالية اضف اليها اخطاء سياسية ربما تكون قاتلة لبعض السياسيين الجدد.