بقلم : مصطفى بعزاوي عرفت عبد الكريم الهاروني أيام الجامعة و على وجه الدقة عند تأسيس الإتحاد العام التونسي للطلبة. و لا أذيع سرا إن قلت أن كل الزعامات الشابة في حركة النهضة الآن هي من الكوادر التي سهرت على تأسيس هذا الإتحاد. كان عبد الكريم الهاروني أول أمين عام لهذا الجسم النقابي الذي استطاع في وقت قياسي أن يوحد الجزء الأكبر من الساحة الطلابية حول منظمة طلابية تقطع مع واقع التشتت السرطاني للعائلات الفكرية والسياسية في الجامعة و أساسا اليسار الطلابي. نفس هذا اليسارالذري ساهم و الحق يقال في تدريب هذه الكوادر الإسلامية الشابة و الطموحة على أساليب النضال النقابي و السياسي من خلال الاحتكاك و التجاذب شبه اليومي في ساحات الجامعة التونسية. كان عبد الكريم الهاروني كاريزما ذلك النضج و تلك الطموحات لشباب على درجة عالية من التعليم و الثقافة, يصلي لكن لا يلبس الجلباب و لا يتزين بلحية و لا يلوك عود الأراك. كان دلالة حية على نوعية جديدة من المناضلين الإسلاميين الذين خرجوا عن الصورة النمطية «للمصلين». لم نجد صعوبة أصلا, ونحن إسلاميون, في التعامل مع كل الطلبة وحزنا على كثير من الاحترام و التقدير، بل كنا نموذج المناضلين الحقيقيين. لم يكن من السهل على قيادة الإتحاد الجديد فتح الأبواب, التي كانت مغلقة بشكل مبدئي, للحصول على تزكية و مباركة النخب الوطنية كالإتحاد العام التونسي للشغل و الرابطة التونسية لحقوق الإنسان فضلا عن وزارة الإشراف الطرف المحاور الوحيد لهذا الإتحاد الناشئ. ولعل نجاح عبد الكريم الهاروني يتجسد في فتح هذه الأبواب التي كادت أن تكون شبه مستحيلة بحكم التعاطف الكبير, لكل الطبقة المثقفة و السياسية و الفكرية مع بقايا الإتحاد العام لطلبة تونس, إلا أنه مع ذلك نجح في ربط قنوات اتصال حقيقية, بل حاز على كثير من الاحترام والتقدير من كل الذين فتحوا له مكاتبهم.أكثر هذه اللقاءات أهمية تلك التي جمعته بالمرحوم الحبيب عاشور الذي لم يخف إعجابه الكبير بعبد الكريم الهاروني وشخصيته التي شبهها ببورقيبة لكن بعد 14 جانفي, و في حين كانت كل القوى السياسية في البلاد تشحن مناضليها و كوادرها للتعريف بها لدى الشعب التونسي لتصدر المشهد السياسي غاب عبد الكريم الهاروني الذي كان عنوانا لجيل كامل. لم أفهم و لا أفهم إلى الآن كيف يغيب عبد الكريم الهاروني عن المشهد الوطني الكبير. إن صفته كنائب في المجلس التأسيسي و غيابه عن كل المنابر الإعلامية قبل و بعد الانتخابات لا يعطى للرجل حقه على ما أعرفه عنه. و مع احترامي الكبير لكل الوجوه والأسماء التي تبرز تباعا من حين لآخر في البرامج الحوارية حول كل القضايا التي تشغل بال التونسيين فإني أعترف أني افتقدته و كم تمنيت لو حظي ببعض الحضور الذي حظي به غيره. ربما يكون هذا من الاختيارات التنظيمية لحركة النهضة ذاتها و لا أشك لحظة في أنها تعتمد تنظيم توزيع الأدوار بين قياداتها, بحجة أنه يصلح لمستقبل الأيام. إلا أني أجزم أنني شخصيا خسرت بهذا الغياب و خسر كل أفراد جيلي. أقول و بعد أن ترتبت أوراق الحياة السياسية, على الأقل في المدى المنظور, أنه حان الوقت لخروج هذه الكاريزما التي يعرفها آلاف الطلبة الذين عايشوا الحياة الطلابية بين سنوات 80 و 90 من القرن الماضي وقد أصبحوا كهولا و الكثير من أبنائهم و بناتهم ينتخبون. حان الوقت لإخراج هذه الكاريزما التي تعبر عن مستوى من الخطاب و من الوعي نحن بأشد الحاجة إليه في هذه الفترة. إن كل رموز النضال السياسي و النقابي لتلك الفترة يعرفون من هو هذا الرمز فكل الأسماء الحالية للحركة السياسية في تونس هم من أبناء تلك الحقبة بالذات، وكانوا في احتكاك بعبد الكريم بشكل أو بآخر و ربما يكونون هم أكثر من يحترمون خصما سياسيا بهذا الحجم. إن تونس اليوم هي بحاجة لكريزما بهذا الوزن، و مهما كان النظام السياسي الذي سيقره المجلس التأسيسي فإن وجود رمز للدولة و المجتمع هو أكثر من ضرورة لتماسك النظام سياسي مهما كان نوعه. فإن كان نظاما برلمانيا فإنها بحاجة إلى رئيس حكومة يكون له من الوزن ما يضمن ديمومة اختيارات الكتل النيابية الغالبة و إدارة المعارضة كي لا تصل إلى القطيعة و الصدام. و إن كان نظاما رئاسيا كان الرئيس ضمانة لهيبة الدولة وقدرتها على المضي قدما في برامجها الإصلاحية و خصوصا في العلاقات الخارجية و كسب احترام الدولة و الشعب. و إن كان نظاما نصف نصف فالرمز يكون قادرا على إدارة اقتسام السلطة دون الوقوع في خطر تنازع الصلاحيات مع بقية السلطات. تونس بحاجة إلى وجه شاب و مناضل له القدرة على التوفيق بين كل أطياف المجتمع و عائلاته السياسية على دراية تامة بكل ألوان الطيف السياسي و رموزه و هذا ما يتوفر في نظري في عبدالكريم الهاروني مع احترامي و تقديري لكل رموز البلاد. إن تونس تنتظر الشخص الذي يحبه الشعب و لا يكفيه الإجماع و الوفاق. تونس هي بأمس الحاجة إلى هذه النوعية من الطاقات التي يجب أن يكتشفها الشعب ليعرف و يتأكد أن هذه الأرض ولادة و معطاء. إن كل تأخير في تفعيل هذه الطاقات, خصوصا لتأسيس لمجتمع جديد, هو تقصير بمعنى من المعاني في حق البلاد. لقد تجاوز الرجل الخمسين سنة أو شارف عليها وهي السن التي عادة ما تتصدر فيها الرموز العالمية قيادة بلدانها. أوباما وكامرون ليسوا أحق منه بقيادة بلدانهم وهم على رأس النظام العالمي برمته في نفس سنه تقريبا, أما زباتيرو فقد تنحى من قيادة إسبانيا و لم يبلغ بعد الأربعين من عمره, فلماذا لا زلنا نؤمن إلا بالمسنين و أصحاب الخبرة؟ . أدعو كل وسائل الإعلام إلى رفع الغطاء عن هذه الشخصية و اكتشافها و التي أعتبرها من الشخصياتالمجهولةأوالمعتم عليها. على أني أؤكد و أشهد الله و الناس أن هذا رأيي الشخصي و إني أمارس حقي في إبداء رأيي حول موضوع يهم بلدي و شعبي لا أريد من وراء ذلك جزاء و لا شكورا. و من حقي أن أختار من أثق به و يتكلم باسمي دون حاجتي إلى مراجعة خطاباته و أكون مجبرا على الجري وراء التصريحات و التلميحات لترجمة أفكاره. إنها دعوة أعتبرها جزء من واجبي تجاه هذا الوطن العزيز و تجاه هذه التجربة الفريدة التي تصل فيها حركة إسلامية إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع.