بقلم : رشيد خشانة في الجزء الأول من مقاله توقف الكاتب عند محورين « أحزاب قديمة تتجدّد» و»مخاتلة تجمّعية» ويعود اليوم ليواصل تحليله للخارطة السياسية التي أفرزتها انتخابات المجلس التأسيسي فيقول: إخفاق الحركات الأيديولوجية وبروز الوسط: في مقابل تلك العودة المُخاتلة للحزب الحاكم السابق، لوحظ إخفاق شامل لمعارضيه العقائديين، إذ عجزت الأحزاب الماركسية والناصرية والبعثية والماوية عن الفوز بأكثر من مقعد أو مقعدين، (عدا «حزب العمال الشيوعي» الذي حصد ثلاثة)، بالرغم من أنّ أجيالا متعاقبة تداولت على قيادتها في عهدي بورقيبة وبن علي وقدمت تضحيات كبيرة. وسيطرت أحزاب الوسط على المشهد من خلال ثلاث تشكيلات هي «الديموقراطي التقدمي» و»التكتل» و»المؤتمر»، وهي تشترك في كونها عارضت بن علي بفاعلية متفاوتة، ما منحها صدقية بعد انتصار الثورة. وكانت استطلاعات الرأي منحت «الديموقراطي التقدمي» الرتبة الأولى بين الأحزاب غير الدينية بفارق كبير عن الحزبين المنافسين له، فيما اعتبرت «النهضة» أن هذا الحزب هو غريمها الرئيسي، ما حملها على قصر مشاورات تشكيل الحكومة الانتقالية على «التكتل» و»المؤتمر». لكن «التقدمي» خسر قسما عريضا من قاعدته الانتخابية بسبب الأخطاء التي ارتكبها زعيمه المحامي أحمد نجيب الشابي، بانضمامه إلى حكومتي محمد الغنوشي الأولى والثانية بعد الثورة، وإطلاقه حملة إعلانية واسعة في المحطات التليفزيونية على الطريقة الأميركية، أزعجت قواعد الحزب وحولت مناصريه إلى الحزبين المنافسين، بعدما كانت الاستطلاعات تمنحهما حصة ضئيلة من الأصوات. قصارى القول: إنّ انتخابات الجمعية التأسيسية صنعت خارطة جديدة تتألف من ثلاث مجموعات بحسب الحجم، هي الأحزاب الخمسة الكبرى (من 89 إلى 16 مقعدا) وأحزاب الحجم الوسط (3 - 5 مقاعد) وهي أربعة، بالإضافة إلى عشرة أحزاب صغيرة الحجم. أما على صعيد التصنيف السياسي فتتوزع مقاعد الجمعية التأسيسية على أربع قُوًى متفاوتة الحجم، هي: التيار الاسلامي («النهضة») والتيار الوسطي الاشتراكي الديموقراطي («التكتل» و»التقدمي» و»المؤتمر» و»التجديد») والتيار الدستوري أو «التجمعي» (وهو «العريضة» زائدً الأحزاب الصغيرة، وإن كان كثير من الدستوريين اتخذوا من البورقيبية مرجعية لهم، وأدانوا بن علي وحزبه). وأخيرا المستقلون، وهم سيشكلون قوة إسناد لهذا التيار أو ذاك. هكذا لم تمحُ انتخابات الجمعية التأسيسية الخارطة القديمة تماما، فالأحزاب الستة الأولى كانت موجودة قبل الثورة. أما أحزاب الديكور فتبخرت عدا «التجديد»، وإن جاء في ثوب جديد («القطب الحداثي»). وهذه الخارطة ليست نهائية، فالجمعية التأسيسية مقيدة بحدين هما السقف الزمني، الذي لن يتجاوز على الأرجح سنة واحدة، والمهمة المحددة لها والمتمثلة في كتابة الدستور والإعداد لانتخابات عامة برلمانية (أو رئاسية) بعد وضع قانون انتخابي جديد. بيد أن هذا الأمر غير محسوم حتى الآن، وقد يشكل عنصر تفجير في المستقبل، إذ اتفقت ثلاثة أحزاب فائزة على تكوين ائتلاف حاكم يضم كلا من «النهضة» و»المؤتمر» و»التكتل»؛ ولقد تم تقاسم الرئاسات الثلاث بينها، بحيث تم تكليف حمادي الجبالي (النهضة) بتأليف الحكومة، وتسمية منصف المرزوقي (المؤتمر) رئيسا مؤقتا للجمهورية، ومصطفى بن جعفر (التكتل) لرئاسة الجمعية التأسيسية، فيما اختارت الأحزاب الأخرى موقع المعارضة. وبدأ الائتلاف الثلاثي يواجه مقتضيات تجديد الخطاب والانتقال من موقع المعارضة إلى موقع الحكم، وهي عملية عسيرة شابتها مزالق وزلات لسان كثيرة، اضطُرت زعماء الأحزاب الثلاثة إلى التصحيح حينا والاعتذار حينا، والنفي حينا آخر، أسوة بالتصريح الذي أدلى به الجبالي، مُعتبرا أنّ التجربة التونسية دشنت الخلافة الراشدة السادسة، وهو ما نفاه لاحقا؛ أو تلك التصريحات التي أدلى بها المرزوقي لصحيفة «الأخبار» اللبنانية ثم كذبها، ما حمل الصحفيَّ على بث التسجيل الصوتي للمقابلة. والأرجح أنّ فترة التدريب على العمل السياسي ستستغرق وقتا من أحزاب لم تُعط فرصة التمرس على اللعبة السياسية في ظل احتكار بن علي للسياسة بجميع أبعادها وفي كل ملاعبها. ومن غير المستبعد أن تتجدد في الفترة المقبلة صراعات الحلفاء مع تنامي التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي سيتعين على حكومة التحالف الثلاثي مجابهتها وإيجاد حلول عاجلة لها. ولن تقتصر عناصر التباعد على إدارة الملفات وحسب، فبقاء الحكومة نفسه سيطرح في المستقبل عنصر خلاف بين حزبي «النهضة» و»التكتل» من جهة وحزب «المؤتمر» من جهة ثانية؛ إذ إنّ الأخير رفض التوقيع على الإعلان السياسي الذي حدد سقفا زمنيا للجمعية التأسيسية لا يتجاوز سنة واحدة، وأكد رئيسه المرزوقي مرارا أنه لن يقبل بأقل من ثلاث سنوات، ما يعني أن الرئاسة المؤقتة ستستمر- حسب رأيه- طيلة الفترة نفسها. وقد يطفو هذا الخلاف على السطح بشكل أوضح بعد استكمال تحرير الدستور. كما أن الحزبين وافقا في الوثيقة إياها (والتي وقعا عليها مع تسعة أحزاب أخرى) على أن الأولوية بالنسبة للجمعية التأسيسية هي وضع الدستور والإعداد لانتخابات عامة، فيما اعتبر المرزوقي أن على أعضاء الأغلبية أن يتسلموا الحكم أيضا. ولاشك أن المهمات العاجلة المطروحة على الجميع حاليا، تتعلق بمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بتنامي البطالة وتراجع الصادرات وكساد السياحة وتفاقم الدين الخارجي، ما يستوجب حلولا عاجلة لا يفهمها سوى التكنوقراط، الذين لا يوجدون بالضرورة في قيادات أحزاب الائتلاف الثلاثي. ويتخذ هذا الموضوع أهمية أكبر مع تزايد مخاطر اهتزاز الاستقرار الاجتماعي وحتى الفلتان الأمني، بسبب تفاقم العجز في الميزانية واستفحال البطالة والفقر والتهميش. وكان يمكن لأعضاء الجمعية التأسيسية أن يتخففوا من أعباء الحكم والصراعات التي تترتب عليها، بإلقائها على كاهل الوزير الأول الانتقالي الباجي قائد السبسي، بعدما استطاع تجنيب العملية السياسية الوقوع في مطبات عديدة طيلة أكثر من ثمانية أشهر، أو أي خبير اقتصادي يحظى بكفاءة القيادة، من أجل التفرغ للدور الذي انتخبهم الشعب من أجله أي وضع دستور. ومن هنا فالمسألة ليست ترفا فكريا، وإنما هي في صميم نجاح التجربة الديموقراطية التي يخوضها البلد، فإذا ما تحقق الاستقرار الأمني والوفاق الاجتماعي، سيمضي التونسيون بالتجربة إلى نهايتها محطة بعد أخرى. أما إذا سادت قلة الصبر والسعي إلى المغانم الحزبية السريعة، فقد يتخذ المناخ السياسي منحى تجاذبيا وسجاليا يعطل العملية السياسية أو يربكها على الأقل. في المحصلة، ستشهد تونس فترة مليئة بالتحديات والتغييرات التي ستُبدل ملامح الخارطة السياسية، فتُبرز لاعبين جددا وتُهمش ربما آخرين، لكنها ستكون مرحلة انتقالية في انتظار تبلور خارطة شبه نهائية مع الاستحقاق الانتخابي المقبل، الذي يُفترض أن يكون في خريف العام القادم... إذا ما سارت الأمور بشكل سلس. الخارطة الجديدة بحسب عدد المقاعد حزب النهضة 89 حزب المؤتمر 29 العريضة الشعبية 26 حزب التكتل 20 الديموقراطي التقدمي 16 القطب الحداثي 5 حزب المبادرة 5 آفاق تونس 4 البديل الثوري 3 حركة الديموقراطيين 2 حركة الشعب 2 حركة الوطنيين 2 حزب المستقبل 2 أحزاب صغيرة ومستقلون 15 المجموع: 217