لا يختلف إثنان، في ان المجلس الوطني التأسيسي «يصنع» اليوم «تقاليده» بنفسه، ومن داخله، وخاصة تقاليد الحوار والنقاش والجدل والاختلاف والوفاق، وهو بذلك «يؤسس» لثقافة جديدة ستقتفي آثارها لاحقا المجالس المنتخبة سواء كانت برلمانا أو هيئات محلية أو مجالس جهوية أو غيرها، كانت تعودت خلال العقود الماضية على ثقافة ال»نعم»، وتقاليد «الحوار الأجوف» الذي كان صدى لرأي الرئيس الأوحد والحزب الواحد.. غير أن «صناعة» هذه «التقاليد»، لا يمكن أن تتم بنوعية المناقشات التي تدور حاليا في رحاب المجلس التأسيسي، أو بعضها على الأقل.. إذ يغلب على المداخلات، التمطيط والتكرار، والرغبة في إبداء الرأي، حتى وإن سبق الإدلاء به من نائب آخر، وثمة نوع من النرجسية لدى بعض النواب في التعامل مع المناقشات... بحيث يبدو التمسك بالموقف أحيانا على حساب سياق المداولات، بل على حساب الغاية من النقاش ذاته.. ويلاحظ المرء دون عناء، أن التعبير عن الرأي، الذي يفترض أن يكون إضافة نوعية لمداولات المجلس، يتحول في مواطن زمنية كثيرة وواسعة، إلى نوع من «تسجيل الحضور»، أكثر منه تعبير عن موقف أو إدلاء برأي، وهو ما أثر سلبا على نسق المناقشات، وقدم عديد المداخلات، في صورة المداخلات الهامشية التي بدت وكأنها تدور حول نفسها، ومعطلة إلى حد كبير لسير المداولات، إن لم نقل عكس المضمون العميق الذي كان يسود مداخلات النواب بين الفينة والأخرى.. بالطبع، لا تنسحب هذه الملاحظات، على مداخلات كثيرة، كانت عميقة وشجاعة وجدية، واستطاع أصحابها «فرض» تعديلات جوهرية على فصول عديدة من مشروع قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية، وكانوا سببا في تطوير هذا النص التاريخي والمصيري في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعيشها البلاد حاليا.. لاشك ان مداولات المجلس الوطني التأسيسي، كشفت لأول مرة في تاريخ المؤسسة التشريعية التونسية، عن وجود حقيقي للرأي والرأي الآخر، والنقاش، ومقارعة الحجة بالحجة، كما أظهرت في أحيان كثيرة مستوى راق من الوعي السياسي والقانوني والفقه الدستوري، لكن ذلك كان يرافقه تشويش واضح بفعل مداخلات عديدة لم تكن منسجمة مع روح المجلس ومهمته ودوره والظروف التي يشتغل فيها، والاستحقاقات التي تنتظره.. فرفقا بهذا المجلس الذي نريده بعيدا عن الهوامش.. ورفقا بالمواطنين الذين يتابعون جلسات هذه المؤسسة بكثير من التأفف أحيانا.. ورفقا بالسلط العمومية التي لا نريدها سلطا ميكانيكية، كما لا نريدها ان تكون سلطا هامشية، عبر محاولة تفتيتها وتقسيمها وتهميشها، وإن اتخذت شعارات التشاور والوفاق والتوافق وغيرها..