بقلم: د. محمد الأسعد قريعة تابعت مثل غيري من التونسيين اعتصام عدد من طلبة كلية الآداب بمنوبة -ولا أقول ملتحين أو متشددين- للمطالبة بحق زميلتهم المنقبة في اجتياز الامتحان، وما عقب ذلك من ردود فعل تجاوزت في بعض الأحيان الحكمة المطلوبة في مثل هذه المسائل الحساسة، فانعقدت المنابر الإعلامية، وانتظمت الوقفات الاحتجاجية، ونودي بالإضراب العام في جميع المؤسسات الجامعية، وأصبح الموضوع حديث المجالس في البيوت ووسائل النقل العمومي وفي أماكن العمل وفي كل التجمعات، وانقسم الناس بين مؤيد لمطالب هؤلاء الطلبة، وبين مناد بالويل والثبور، فتسربت عبارات هنا وهناك تذكرنا بعبارات أخرى كنا نسمعها في أيام الجمر، عندما كانت فزاعة الإسلاميين تُشرع لكل الانتهاكات التي كان يقوم بها النظام البائد بمباركة صامتة أو معلنة من كثير ممن يدعون الآن الدفاع عن قيم الحداثة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وحتى نعود إلى السبب الرئيسي لهذا الاعتصام، وهو حرمان طالبة مُنقبة من ارتياد مقاعد الدرس واجتياز الامتحان، يحسُن بنا أن نجيب أولا عن السؤال التالي: هل أن الحرية كل لا يتجزأ أم هي غير ذلك؟ فإذ كان الجواب بالإيجاب، نكون قد اتفقنا على أن المواطن حر في معتقده وفي ملبسه وفي مأكله وفي مشربه، ولا يحق لأي كان بما في ذلك مؤسسات الدولة- أن تحد من هذا الحق المبدئي بأي شكل من الأشكال ما دام صاحبه لم يعتد على أي كان. يقول عميد الكلية في تبرير أسباب هذا الرفض أن المجلس العلمي أصدر قرارا في وقت سابق تُمنع بمقتضاه المنقبات من دخول الحرم الجامعي، وأنه لا سبيل إلى التراجع عن هذا القرار الذي اتخذه مجلس منتخب. وبصرف النظر عن وظيفة هذا المجلس التي لا تعدو أن تكون وظيفة استشارية بحتة، فهل من حقه أن يصدر قرارا بمثل هذه الخطورة من شأنه أن يحد من حريتين أساسيتين هما حرية المعتقد وحرية الملبس، بالإضافة إلى كونه يحرم مواطنة من حقها الأساسي في التعليم؟ ثم لنفترض أن نفس هذا المجلس أصبح في يوم من الأيام ذا تركيبة مخالفة لما هو عليه الآن، وأصدر قرارا يمنع غير المتحجبات من الدخول إلى الحرم الجامعي، وسوف لن تعوزه المبررات؟ ماذا سيكون الموقف حينذاك؟ ألا ترون معي أن المسألة ليست بالبساطة التي قد تتبادر إلى الذهن، ولا يمكن حلها بالتدخل الأمني كما دعا إلى ذلك أحد المشتغلين في إحدى القنوات الخاصة ، ولا يمكن حلها أيضا بالقرارات الإدارية بما فيها الصادرة عن المجالس العلمية، وإنما بالاحتكام إلى القانون الذي لا يمنع إلى اليوم هذا النوع من اللباس، وسوف لن يكون بمقدوره أن يمنَعه مستقبلا إذا كفل الدستور الجديد الحرية الشخصية بما فيها حرية المعتقد، وما أظنه يذهب إلى غير ذلك. ثم ألا ترون معي أن المجتمع التعددي والمتنوع الذي نرومه جميعا لا يمكن أن يستثني أيا كان من أبنائه وبناته، بمن فيهم أولئك اللائي يرتدين ما خف من الثياب، واللائي يعتقدن أن الحجاب واجب شرعي! لقد أردت فقط بهذه السطور التنبيه إلى خطورة الإقصاء في أي اتجاه كان، وأن التطرف لا يولد غير التطرف، وأن من تُقصيه اليوم قد يقصيك غدا، ولا مفر لنا جميعا من أن نتعايش في هذا البلد الطيب بكل اختلافاتنا الفكرية والإيديولوجية في كنف التفاهم والاحترام المتبادل.