في الحلقة السابقة بيّنا أن الصحافة التي ورثها بن علي اثر تسلمه الحكم هي صحافة حكومية وحزبية (نسبة الى الحزب الحاكم) تتميز بال«لاإخبار» المطلق وصحافة خاصة، إما وقفت فوق الربوة في أواخر عهد بورقيبة، وإما انحدرت الى الرداءة والإسفاف. إن الصحافة التي ورثها بن علي هي بمثابة هدية من السماء، وهو الذي حسب أحد المقربين اليه يكره الصحافة والصحفيين، ويعتبر الصحافة «زائدة دودوية» استنسخنا مفهومها عن الغرب، وأنها لا تصلح لشيء، كما كان ينسب لها التسبب في أزمة 26 جانفي 1978 و4 جانفي 1984. وبعد ربيع نسبي عرفته الصحافة التونسية في بداية عهده (1988 1990) كشّر لها نظامه عن أنيابه. فهذا الرجل الحبيس منذ شبابه في غرفة المخابرات، سمح في بداية عهده بجرعة من الحرية للبلاد وللصحافة، بهدف وحيد حسب رأيي وهو مخابراتي بحت، يتمثل في كشف من هم معه والقابلون لبيع ذممهم أيضا ومن هم ضده، ولتبيان ما يمكن أن نسميه «الرؤوس القوية» (Les têtes brulées)، ولتصنيف «المشوّشين» والمعارضين، وقد أكمل مخططه بتنظيم انتخابات تشريعية سمحت له بالأخص بكشف أنصار «النهضة» والمتعاطفين معها، ومع بداية سنة 1991 انتقل مخططه من الخفاء الى العلن، كاشفا عن عصاه الغليظة لضرب كل من يقف في وجهه، وبدأ عبد الوهاب عبد الله منذ ذلك الوقت بالتعاون مع وزارة الداخلية، بتفصيل الثوب أو القالب الذي ستدخل فيه الصحافة نهائيا. وأنا أعتقد بعد تجربة شخصية ومباشرة في هذا المجال أن الغالبية العظمى من رخص اصدار الصحف (أي وصل الاعلام) التي أسندت في عهده، كانت أولا بمثابة مكافآت على خدمات سبق أن قدمها أصحابها الى نظام بن علي، لا يمكن أن تخرج عن باب التجسس والمخابراتية، وثانيا كانت تسند مقابل تعهد بمواصلة تقديم نفس النوع من الخدمات. فبالنسبة ل«بن علي بابا»، فإن رخصة اصدار صحيفة وفي ما بعد اذاعة أو تلفزيون هي بمثابة «الهدية» و«المزية» لا تختلف في شيء عن رخصة فتح مقهى أو «طبرنة»، ففي تقدير شخص جاهل مثله، هذا الوصل ما هو إلا وسيلة لكسب المال لمن يُمنح له، بينما هو وسيلة بالنسبة لنظامه لتنويع مصادره المخابراتية، اذ أن هاجسه الوحيد هو المحافظة على نظام حكمه لا غير. وهكذا فإن بن علي الذي أكمل تحويل الحزب الحاكم الى خلية بحتة للمخابرات، نجح الى حد بعيد في جعل الصحافة كذلك. ولم يكفه أنه بهذه الطريقة الانتقائية وضع في «جيبه» نسبة كبيرة من مديري الصحف وأصحابها بالتمزي بالرخص على المرضيّ عنهم، بل عمد في نفس الوقت الى زرع عديد «العيون» داخل أقسام تحرير الصحف وبعضهم تم اكتشافهم قبل الثورة، والبعض افتضحوا بعد الثورة، ولكن القسم الكبير منهم بقوا ينعمون ب«الستر» الى اليوم، وهم يتشدقون الآن ودون حياء بمناصرتهم للثورة، وبالكشف عن فضائح النظام السابق، وبالتنديد ب«الطرابلسية»، وممثلين في واقع الأمر «غرغرينا Gangrène» تنخر من الداخل القطاع، ولن تسمح أبدا بتطوره نحو الأرقى والأفضل. لقد حان الوقت لكشف هؤلاء، ولنا في ثورات دول المعسكر الشيوعي أسوة حسنة وقدوة في هذا المجال. فوزارة الداخلية بأجهزه استعلاماتها ومخابراتها، بحوزتها دون شك قائمة شاملة في هؤلاء المندسين وبائعي ذممهم، وهي مدعوة (على غرار ما فعلته أجهزة المخابرات في عديد الدول الشرقية التي عرفت ثورات مماثلة لثورتنا) الى نشر قائمة في هؤلاء «الصبّابة» حتى يتخلص منهم الجسد الصحفي، عسى أن يشفى من قسم هام من علله. إنها من وجهة نظري الخطوة الأولى لاصلاح القطاع.