كان لنظام بن علي في علاقته بالصحافة «انجازان» هامان يحسبان له، أحدهما، وقد تعرضنا له في الحلقة السابقة، يتمثل في عدم اسناد أي ترخيص لإصدار صحيفة، أو أية وسيلة اعلام أخرى مسموعة أو مرئية، إلا للمقربين المقربين، أو لمن قدموا له خدمات مخابراتية تجسسية، مع تعهدهم بمواصلة تقديم نفس الخدمات في المستقبل. أما الانجاز الثاني فيتمثل في بعث وكالة الاتصال الخارجي التي كان مقررا لها «نظريا» تجميل صورة تونس أي البلاد في الخارج وإذا بها تتحول منذ انطلاقها الى وسيلة لتوزيع «الريع» الحكومي، أي الاعلانات، وبعبارة أخرى اشتراء الذمم ومكافأة الصحف وفي ما بعد الاذاعات والتلفزات المتعاونة مع النظام ومع أجهزة مخابراته بالأساس، وقد مثّلت هذه الأداة وسيلة شيطانية لاشتراء الجميع تقريبا. كما كان ل«الزين بابا» انجاز ثالث لا يقل عن السابقين أهمية إلا أنه لم يكن له سبق الانفراد به وتمثل في اغلاق كل مصادر الخبر اطلاقا في وجه الصحفيين، فقد قنّن ونظم تنظيما محكما أدوات تسريب الخبر للصحفيين، حتى لم يعد يتسرب تقريبا أي شيء لا ترغب السلطة في أن يرى النور، ولكي «يرقد ويتهنى» أكثر، فإن الملحقين الصحفيين أصبحوا يطبقون ما يشبه «الحظر» المطبق على كل صحيفة أو صحفي يسرب خبرا لا يرضي ساكن قصر قرطاج وحاشيته، كما أن موظفي وزارة الداخلية بمختلف رتبهم، وبالأخص في ادارة الشؤون السياسية كانوا «يرهبون» بالهاتف والتهديد الصريح كاتب أي خبر أو تعليق لا يرضي. وهذا الواقع جنت ثماره الصحافة الرديئة وحتى «السافلة» التي لم تتورع عن قذف أعراض الناس وارهاب المعارضين، وفي مقدمتها صحيفتا «الحدث» و«الإعلان» اللتين كان لهما دور مفصلي رئيسي، بالاضافة الى البوليس السياسي في ارهاب كل نفس حر، حتى لا نقول معارض، وفي إعانة بن علي عونا ثمينا جدا قبضت ثمنه من أموال الشعب، على تقوية أسس نظامه الترهيبي، ولنا عودة الى هذا الموضوع إن شاء الله. إذ أن صحافة «الخنادق» هذه قبضت أموالا طائلة من وكالة الاتصال الخارجي ولم تتضرر إطلاقا من «الحظر المطلق» (Le blocus total) على الأخبار، وعلى عدم تسامح السلطة مع التحاليل التي لا ترضيها، اذ أن دورها لم يكن أبدا الإخبار والتحاليل، لأنها كما ذكرنا آنفا، كانت تمثل وسيلة للترفيه واضاعة الوقت. وفي تقديري فإن أكثر الصحف تضررا من هذا الواقع الجديد، هي صحف «دار الصباح»، لأن نظام بن علي لعب إزاءها لعبة قذرة، فهو يعرف أن نوعية قرائها تبحث فيها عن الإخبار والجدية والتحاليل الموضوعية والآراء الحرة. وبما أنه أغلق صنبور الأخبار إغلاقا محكما، فقد ضربها بذلك ضربة أولى، اذ تناقصت مادتها الاخبارية الذاتية تدريجيا، ثم سلك معها في ما يخص إعلانات وكالة الاتصال الخارجي لعبة جهنمية قوامها «ذوّقها وشوّقها». فقد كان يفتح ويغلق صنبور الاعلانات، أي الأموال على هواه غالبا دون تعليل أو تبرير وبما أن أية مؤسسة صحفية في الدنيا هي أيضا مؤسسة اقتصادية، فقد كان الاغراء (la tentation) قويا جيدا، وهكذا فإن الجرأة النسبية التي كانت تتميز بها خلال العهد البورقيبي وفي بداية عهد «الزين بابا» إخبارا وتعليقا وتحليلا اختفت تدريجيا ومعها تناقص قراؤها. كما أن صحف المعارضة «الحقيقية» التي رأت النور، أو عادت للصدور اثر «فجر 7 نوفمبر» تضررت كثيرا من هذا الوضع، فقد أجبر الإيقاف التعسفي البعض منها على التوقف عن الصدور، بينما وجدت الأخرى، كجريدة «الموقف» مثلا نفسها في هشاشة مالية كبيرة جدا، بحكم حرمانها من الاعلانات الحكومية ومحاصرتها في التوزيع، والايقافات المتكررة التي تعرضت لها. ولكن الضرر الأكبر الذي لحقها وتسبب في عزوف القراء عنها رغم جرعة الحرية التي كانت توفرها هو أنها وجدت نفسها «تجتر» من عدد لآخر نفس الكلام المعاد، حول غياب دولة القانون والاعتداء على الحريات، وعاجزة عن توفير مادة اخبارية تستحق هذا الاسم لقرائها بحكم مصادرة كل مصادر الخبر في البلاد.
٭ ٭ ٭ ٭ إن «الانجازات» الثلاثة لبن علي، رافقها أيضا ضرب لجمعية الصحفيين (التي تحولت فيما بعد الى نقابة الصحفيين التونسيين) بتنصيب «خدَمه ومواليه» على رأسها، فخلا الجو لمالكي الصحف للاعتداء على حقوق الصحفيين المادية والمعنوية والنقابية والامتناع عن تطبيق الاتفاقيات المشتركة، مما ولّد وضعا مزريا وهشاشة مادية ومعنوية (Précarité) للغالبية الساحقة من العاملين في القطاع، لم يجد البعض أمامهم من حل سوى «السمسرة» وبيع ذممهم لكل من هبّ ودبّ، من الفنانين «الكبار» والصغار، الباحثين عن الإشهار والدعاية، ومديري المهرجانات الثقافية، والعرافين، وبعض رؤساء النوادي الرياضية والمؤسسات الاقتصادية.. وتحوّل عديد الصحفيين الى ما يشبه المتسوّلين المادين أيديهم على الدوام، القابلين لتوقيع المقالات المدفوعة الأجر، وهكذا فإن كل هذه الوسائل مجتمعة سمحت ل«بن علي بابا» بأن يحيّد الصحافة تحييدا مطلقا، وألا تبقى مؤثرة في الساحة سوى صحافة التلهية والترفيه و«تعدية الوقت» قوامها ما أسميه مجموعة من «الحوانيت» الصغيرة التي تسبح بحمده صباحا مساء، وترهب خصومه ومعارضيه وعموم الناس، وتساهم بصفة فعالة في تجهيل الشعب التونسي وتمييعه وإبعاده بشتى الطرق عن الشأن العام، أي هموم أمته وشعبه. يتبع