إن اصلاح الاعلام في بلادنا، هو مهمة صعبة الى أبعد الحدود ولكنها ممكنة. وأولى خطواتها، كما ذكرنا سابقا، تمر عبر محاسبة رموز الفساد الذين اندسوا فيه ثم التخلص منهم، فهم ك«السرطان» الذي دخل خلال عهد «الزين بابا» في جسد مصاب بعدة أمراض من قبل، بفعل تأثره في أواخر العهد البورقيبي بالوضع الذي عرفته بلادنا من جراء طول شيخوخة بورقيبة وخرفه واحتدام معركة خلافته. فقد اندس في هذا الجسد المريض خلال عهد المخلوع عدد من الوصوليين الذين لا تربط غالبيتهم به أية علاقة، لا من قريب أو بعيد، فتحصلوا على رخص اصدار صحف أو انشاء وسائل اعلام سمعية أو مرئية. وقد استغلهم نظام «الزين بابا» أسوأ استغلال، موكلا اليهم عددا من المهمات القذرة، قد يكون أقذرها هو ما أسميه حرب «البورنو كاسيت». فقد أرسى الرئيس المخلوع منظومة الارهاب والترويع لعموم الشعب ولمعارضيه بالأخص، عبر البوليس السياسي وحفنة من الصحف. وكان لهذه الأخيرة حسب رأيي دور أساسي مفصلي في استراتيجيته لا يقل أهمية عن دور البوليس السياسي، بل قد يكون أخطر منه. فلعبة أشرطة (كاسيتات) البورنوغرافيا (الإباحية) التي فبركتها أجهزة مخابراته ضد عدد من الشخصيات السياسية المعارضة، كمحمد مزالي وعبد الفتاح مورو وسهام بن سدرين وعلي العريض وغيرهم، كان لها وقع وأي وقع على الطبقة السياسية في البلاد، وعلى عموم الناس الذين لهم اهتمام بالشأن العام، لم يقع الى اليوم للأسف الشديد تقدير حجمه ودلالاته. فلو حدث الأمر في مجتمع غربي مثلا، لما كان له سوى دور محدود جدا، أما في مجتمعاتنا العربية الاسلامية، فإن دور هذا النوع من الارهاب الحقير لا حدود له. فالعرض والشرف مفهومان يحتلان مكانة مركزية في حياتنا، وتلطيخهما له اثار مدمرة على أقوى الأقوياء فينا. والآلية التحييدية والترهيبية التي أطلقتها «حملة الأشرطة الإباحية» كانت في تقديري هي الوسيلة الأشد نجاعة، التي مكّنت رئيسا جاهلا عييّا من تعبيد طريق الدكتاتورية أمامه، فهي قد بينت للجميع بطريقة لا تدع مجالا للشك، أن نظامه لن يتورع عن أي قذارة، وعن أية نذالة وسفالة في تحطيم معارضيه والدائرة المحيطة بهم من عائلة وأصدقاء تحطيما مطلقا. إنني شخصيا لا أرى عجبا أو غرابة في نجاح الرئيس الجاهل في حكم البلاد طوال ثلاثة وعشرين عاما كاملة، فعدم تورعه عن توخي أية وسيلة مهما بلغت سفالتها، وعدم توقفه عند أي حدود أو موانع أخلاقية أو قيمية تفسر ذلك أحسن تفسير. فبعض المعادن تذوب بسرعة بفعل درجة حرارة معينة، وبعضها يصمد قليلا، ومع ترفيع الحرارة ينتهي بالذوبان، أي أن أصلب المعادن تنتهي الى الذوبان بفعل النار في نهاية المطاف، و«الزين بابا» كان يستعمل ضد مناوئيه ومنذ البداية الدرجة الأرفع من القمع والارهاب، مروعا عائلاتهم وحتى أطفالهم وأصدقاءهم، فذاب الجميع واحدا بعد الآخر، ولم يتبق سوى حفنة تتميز بشجاعة لا متناهية. ولكن هذه الجريمة وهذا هو الأخطر تمكّن بن علي من ارتكابها بفضل بعض المأجورين المحسوبين على القطاع الصحفي الذين شاركوه في تنفيذها مشاركة مباشرة. ولذلك فإن أولى خطوات اصلاح القطاع الصحفي يجب أن تمر حتما عبر تطهيره تطهيرا تاما وممنهجا من هذه الخلايا السرطانية وإبعادها عنه، فمن العار أن تنسب الى قطاع هو منها براء، فالمهمات التي أدتها والأدوار التي لعبتها لا تمت بالصحافة من قريب أو بعيد، بل هي بوليسية ومخابراتية يأباها الحد الأدنى من الأخلاق. ولئن لاحقت سلطة العار(1) (Le pouvoir de la honte) بعض هؤلاء المأجورين بعد الثورة، فاعتذر بعضهم عما صدر منه، فإن ذلك لا يكفي نظرا للجريمة التي ارتكبوها في حق شعب كامل، وعلى العدالة الانتقالية المرتقبة أن تضع آليات محاسبة هؤلاء واسترجاع المليارات من أموال الشعب التي دفعها لهم «الزين بابا» كثمن لمشاركته في جريمته. (يتبع)