هل يمكن الحديث عن سينما «نظيفة» وأخرى «غير نظيفة»؟! قد يعترض البعض على مثل هذه التصنيفات لأنها قد تكون تحيل على توجه «أخلاقي» في التعاطي مع الأثر الإبداعي - في المطلق - سواء كان سينمائيا أو مسرحيا أو أدبيا... في حين أن التعاطي نقديا مع الأثر الإبداعي يجب أن يكون أساسا بموازين فنية وجمالية صرفة. ودون الدّخول في جدل قد يطول حول هذه المسألة، نبادر بالتوضيح بأن المقصود بعبارة «سينما نظيفة» في هذه الورقة هو تلك السينما ذات التوجه الثقافي الإنساني التي لم يتلوّث خطابها الدرامي والجمالي بأي نوع من أنواع التعصّب للإيديولوجيا أو «الدعاية» العنصرية البغيضة لتفوّق ثقافة بعينها أو «جنس» أو «عرق» بعينه. سينما الناصر خمير مثل هذه السينما ذات الروح الحضارية المنفتحة وذات السمات الجمالية والفنية التي تغرف من مختلف عناصر المنجز الحضاري والإبداعي للإنسان - في المطلق - بصرف النظر عن لونه وعرقه ودينه هي التي يعكسها شريط «بابا عزيز» للناصر خمير الذي يعرض هذه الأيام بقاعة سينما «أفريكار» بالعاصمة «باب عزيز» الواقع أن إدارة سينما «أفريكار» وهي تحرص على إتاحة الفرصة من جديد للجمهور العريض لمشاهدة شريط «بابا عزيز» بعد أن كان شاهده البعض منه خلال الدورة الماضية لأيام قرطاج السينمائية فكأنها تريد من خلال ذلك أن «تثأر» لهذا الشريط السينمائي الذي رأى البعض أنه قد يكون تعرّض ل«مظلمة» تحكيمية خلال الدورة الماضية من أيام قرطاج المسرحية التي رأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة فيها الروائي اللبناني إلياس خوري... فخروج شريط «بابا عزيز» للناصر خمير من هذه الدورة بلا أي تتويج مهما كان نوعه بدا لعديد النقّاد والمتابعين - وقتها - وكأن فيه نوعا من الظلم لهذا الشريط «اللذيذ» والمختلف... رحلة الشّوق والوجد الشريط يروي «أطوار» رحلة صوفية في الصحراء بطلها شيخ صوفي ضرير رفقة حفيدته الطفلة الصغيرة بحثا عن خيمة الاجتماع السنوي الكبير للدراويش (المتوصّفة)... هذه الرحلة التي كان الدليل فيها بالنسبة للشيخ الضرير وحفيدته شوق الشيخ ووجده وتطلعه للاجتماع باخوانه وأحبابه في اللّه (المتصوّفة) جعل منها المخرج الناصر خمير «رحلة حب» وشوق روحي يقوم بها الانسان باتجاه أخيه الانسان - في المطلق - بعيدا عن أية تحديدات قد تكون تحيل على «هوية» بعينها أو «عقيدة» بعينها... فالمسافر في هذه الرحلة هو انسان (شيخا كان أو طفلا) والمقصود هو أيضا الانسان... أما الدافع فهو «الحب في اللّه» لا غير ولذّة الاجتماع على ذكره وشكره والذّوبان في حبّه... لقد اختار الناصر خمير فضاء الصحراء بما تعنيه وترمز إليه من صفاء ورحابة وانفتاح على التاريخ البشري وحتى على جغرافيته لكي تكون مسرحا لأحداث شريطه هذا... فكان أن أبدع سينمائيا في «استنطاق» عناصرها ومكوناتها. فالمتفرج على شريط «بابا عزيز» سيجد فسحة بصرية لن يجدها في أي شريط سينائي حتى ولو كان من ضمن تلك الأشرطة التي اتخذت من الصحراء «مسرحا» لأحداثها... ذلك أن الصحراء في شريط «بابا عزيز» هي غير الصحراء في غيره من الأشرطة السينمائية... الصحراء في شريط «بابا عزيز» هي مزيج عجيب من الزمان والمكان والروح... والتيه والغياب فيه هو في عمقه اهتداء وحضور! والمتفرج على شريط «بابا عزيز» للناصر خمير سيجد متعة حسية ووجدانية ربما لن يجدها في أي شريط سينمائي آخر... ذلك أن شريط «بابا عزيز» هو شريط لذيذ ومختلف بالمعنى السينائي لأنه «يعزف» فرجويا على أوتار الأصول الحضارية والروحية والثقافية للإنسان بعيدا عن أي شكل من أشكال «اللّغو» الإيديولوجي أو العنصري... لذلك بل لهذا المعنى بالذات هو شريط يمكن أن نقول عنه بأنه مثال للسينما النظيفة.