حمي وطيس الجدل في الآونة الأخيرة حول استقلالية الإعلام في تونس، على خلفية تصريح رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي الذي تحدث عن «إعلام حكومي» ولم يصفه ب«العمومي».. البعض اعتبره «تهديدا للإعلام الحر»، والبعض الآخر صنفه ضمن خانة «المس من استقلالية المهنة»، وعده آخرون «محاولة للعودة بالإعلام إلى المرحلة التي سبقت الثورة»، وهكذا قامت الدنيا ولم تقعد، وبرزت مقولات «الاستقلالية» و«الحياد» و«الحريات الصحفية» و«السلطة الرابعة»، وغيرها من الاصطلاحات التي استخدمت دفعة واحدة بكثير من التهويل، وحتى التأويل المتعسف، رغم أن ما جاء على لسان رئيس الحكومة، غير مقبول، بصرف النظر عن مقصده.. لنتفق منذ البداية، بأن استقلالية المهنة الصحفية، ليست أمرا قابلا للنقاش والمزايدة، وهي لا تنتظر تصريحا من هنا أو هناك، لكي نطرحها ونصر عليها، ونعبر عن مخاوفنا من امكانية المساس بها، فهذه مسألة خارج دائرة المخاوف والهواجس.. لكن عن أية استقلالية تتحدث؟ ماهي معاييرها وضوابطها؟ وإزاء من تكون الصحافة مستقلة؟ ومن يبدو مخولا بالحديث عن الاستقلالية؟ وهل يمكن لمن كانوا "جنود" العهد السابق والمروجين لأجندته، والمدجنين للاعلام لأكثر من عقدين، أن يتحدثوا اليوم عن الاستقلالية، ويقدموا لنا دروسا بشأنها؟ لم يعد ممكنا اليوم خلط الأوراق بمثل هذه البساطة، كما لم يعد ممكنا أيضا، استخدام "استقلالية المهنة" للتخفي وراء أجندات مكشوفة.. فالاستقلالية، لا تعني مناهضة طرف سياسي حاكم، او الوقوف منه موقف المعارضة، من منطلق حزبي أو من منظور إيديولوجي، فهذا شأن الأحزاب والتيارات السياسية، وهي لا تعني كذلك، الاصطفاف خلف أجندات حزبية وسياسية، معلنة أو خفية.. وهذه الاستقلالية، لا تعني كذلك الدفاع عن الحكومة، مهما كان لونها السياسي، أو الانحياز لهذا الحزب أو ذاك، سواء كان في الحكومة أو في المعارضة، لأن ذلك سيحول الصحافة الى بوق جديد، ونحن نريدها أن تقطع مع هذه «المهمة» أصلا.. لكن الاستقلالية، لا تعني ذلك النوع من الصحافة الذي يترصد الأخطاء ويبحث عنها من ثقب الإبرة، ضمن لعبة شبيهة بلعبة القط والفأر، ولا نعتقد أن ذلك من مهمة الصحفيين.. ولا تعني الاستقلالية كذلك، أن تكون الصحافة معولا يهدم الحكومات والاحزاب والمؤسسات والأفكار والرموز، بذريعة «لا أحد يتدخل في عملنا»، ولا يمكن للمرء أن يتعامل مع مكونات المشهد السياسي، بنوع من التعالي الذي يجعل الصحافة لا تقبل النصح أو الاستدراك، أو حتى النقد، فذلك نوع من الغرور غير المرغوب فيه للصحفيين، لأن من شيم الصحافي، التواضع، فهو رأسماله الرمزي والأخلاقي.. استقلالية الصحافة والاعلام، تعني فيما تعنيه التعامل مع الجميع، حكومة وأحزابا وأطرافا سياسية بنفس المسافة، ومن منطلقات حرفية صرف، وبخلفية مهنية دقيقة، لا غبار حزبوي أو ايديولوجي عليها.. لسنا هنا بصدد اعطاء دروس في الاستقلالية لأي كان من الصحفيين، لكن بعض التصريحات والتعاليق التي صدرت خلال اليومين الماضيين، عكست مقاربات سياسوية، اتخذت من الاستقلالية غطاء لإخفاء المنطق السياسي والحزبي الذي يقودها ويحرك أصحابها ممن يعرفهم الرأي العام.. استقلالية الصحافة، تقتضي كذلك درجة عالية من المهنية، وأولى هذه الدرجات أن يحترم البعض عقل التونسي، والرأي العام الذي لم تعد تخفى عليه خافية..