أول قطرة للغيث الثوري التونسي، تساقطت في «الجماهيرية الليبية»، في هذا الجار الجنوبي المتاخم لحدودنا، التي كانت له مع تونس، علاقات متفاوتة التوتر منذ سبعينيات القرن المنقضي.. حاول الزعيم بورقيبة، أن يأمن شرّ «العقيد» الجديد، بما عُرف ب«معاهدة جربة» أواسط السبعينات، ورغم أن القيادة التونسية، ذهبت في هذا الاتجاه وهي مكرهة... وفي نوع من البراغماتية السياسية التي أملتها الظروف ومعطيات الجار الجديد، الذي صعد للحكم عبر انقلاب عسكري دموي، فإنها عادت لتنسف هذه المعاهدة بعد مدة وجيزة على توقيعها، اثر جملة من «الممارسات» التي قام بها العقيد، واعتبرتها القيادة التونسية آنذاك، نكوصا «قذافيا» عن تلك المعاهدة.. لكن العقيد الليبي، الذي كان يبحث عن موطئ قدم في الجغرافيا السياسية للمنطقة، من خلال البوابة التونسية، عاد مرة أخرى في محاولة جديدة لاختراق الشأن التونسي، فكانت «عملية قفصة» العام 1981، التي مثّلت ناقوس الخطر، وأشعلت الضوء الأحمر أمام الطبقة السياسية التونسية، في الحكم، كما في المعارضة الوليدة آنذاك.. وعبثا حاول النظام الليبي، التدخل في السياسة التونسية لاحقا، سواء في العام 1984 في أعقاب أحداث الخبز، أو في أحداث سنة 1986، التي مثّلت اللحظات الأخيرة في عمر نظام بورقيبة.. صحيح أن الرئيس المخلوع، «نجح» في تجنّب «الصداع» الذي كان يمثله القذافي، لكن ذلك تم عبر سياسة «المقايضة»، و«الارتشاء الاستخباراتي»، ضمن تحالف كانت أنظمة تونس وليبيا وموريتانيا، ومصر، وبدرجة أقل المغرب والجزائر، والولايات المتحدة واسرائيل، أبرز مكوناته، ومن هذه الزاوية، كان القذافي أقل ضررا للنظام المخلوع، من دون أن يعني ذلك، نهاية الهواجس والمخاوف والحذر التونسي من «عقيد» قادر على أن يفعل كل شيء في أية لحظة.. ولذلك، عندما قامت الثورة التونسية، كان القذافي أول من بادر بدعوة التونسيين الى الرجوع عن صنيعهم، وبلغت به الوقاحة حدّ وعد التونسيين بإعادة «صديقه» الى الحكم.. غير أن نسائم الثورة التونسية كانت قد سبقته الى عقر «مملكته»، فانغمس فيها، وتلهّى بها عنا.. لم يكن أحد، من السياسيين المراقبين، يتصور امكانية استفاقة الليبيين بهذا الشكل السريع، وإعلانهم الثورة على قبيلة «القذاذفة» الحاكمة في بلادهم لنحو 42 عاما، بالعصا والرصاص الحي، والمخابرات طبعا.. خرج الليبيون زرافات ووحدانا، لا يلوون على شيء، سوى الإطاحة ب«هولاكو» العصر، وكان ما حصل في تونس، هو الوقود الذي ألهب النيران الكامنة في قلوبهم منذ 4 عقود.. لكنهم اصطدموا ب«نظام دموي»، بدأ باستخدام القناصة، وعندما اكتشف أن هدير الثورة امتد الى كل بقعة في تراب ليبيا، استخدم كل الوسائل الممكنة: «الجيش» والعصابات وفرق الكومندوس، ثم الكتائب، فدمر كل شيء: المؤسسات والرموز والمعمار و«الدولة»، فعل كل ما في وسعه لدحر الثوار الذين طلعوا من تحت الأرض، لانقاذ بلادهم وشعبهم، وإنهاء «حكم طاغوتي» عجيب في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر.. لقد حكم القذافي أكثر من 40 عاما، بسياسة «الفوضى غير الخلاقة»، فشيطن جميع من حوله: المجتمع الليبي ونخبه وسياسييه، والجيش والأمن والعلاقات الدولية.. وبنى «حكمه» على كتاب، هو مزيج من «الخزعبلات السياسية»، وعلى خطاب فلكلوري، جعل منه مصدرا للتندر والضحك، وابتذل مفهوم «الشعب» و«الدولة» و«النظام السياسي»، فكان أقرب لسياسة عصابة منه لمنطق الدولة أو حتى الجماهيرية.. والمفارقة الغريبة، أن «العقيد» الذي حاول اقناع العالم بفكره الجماهيري، ذهب ضحية ثورة جماهير شعبه التي اقتلعت النظام، وأنهت حياة «الزعيم العقيد» بشكل ليس أقل عنفا من حكمه العنيف، الدكتاتوري والظالم.. والنهاية، تحرير ليبيا أشد الطواغيت التي عرفتها البلاد في تاريخها.. لكن ليبيا تمر اليوم بامتحان عسير.. فهي تواجه استحقاق بناء دولة جديدة، وسط تجاذبات الخارج، الذي يتصارع لتحويل وجهة الثورة باتجاه غير معروف.. الليبيون قاموا بثورة عجيبة، بعد معاناة شديدة وشاقة، لكن قطفهم لثمارها، قد لا يتم بأيديهم وحدهم، وبناء دولة جديدة بمعايير العصر الحديث، قد يكون أعقد من تحطيم صنم القذافي.. ليبيا امتُحنت بالثورة على «العقيد»، وهي تُمتحن اليوم لبناء الدولة.. ومن ثار على رجل مثل العقيد، قادر على أن يبني ما هدمه ذلك الصنم..