هناك من يريد أن يقصي من أولويات التونسيين اليوم المسألة الثقافية. فهي من منظور البعض لا ترتقي لمستوى المشاكل المعيشية التي يعاني منها عدد كبير من المواطنين المفتقدين لأسباب الحياة الكريمة وهذا رأي وعلى الرغم من أنه يبدو من المسلمات لأن الإنسان إذا خيّر بين غذاء البدن وغذاء الروح فإن غريزة البقاء عنده سترجح الكفة لفائدة الأسباب التي تضمن له البقاء فإنه قابل للدحض. وببساطة فإنّ التونسيين لما انتفضوا ضد نظام المخلوع ونحن نحيي اليوم الذكرى الأولى لانتصار الثورة الشعبية كانوا ينادون بالحريّة والكرامة. والحريّة والكرامة لا تتحقّقان فقط بالشّغل والأكل والشّرب. صحيح من حق كل الناس أن يحيوا حياة كريمة بعيدا عن الاحتياج وصحيح من حق المواطن أينما كان في مستوى معين من الرفاهية المادية التي استحقها بجهده وبالأموال التي يدفعها للضرائب ولكن الحرية لا تكتمل والكرامة لا تتأتى فقط بإشباع البطون كما أن صحة البدن لا تكون كاملة إلاّ إذا كانت مرفوقة بالصّحة النفسية. نحتاج في بلادنا إلى بعث مستشفيات جديدة وإلى توسيع شبكة الطرقات وإلى مزيد الاستثمار في المصانع وبعث الشركات ودعم السياحة ومختلف المبادرات التي توفّر مواطن الشغل ولكن نحتاج كذلك وبدون تأجيل إلى استراتيجية جديدة للعمل الثقافي في البلاد. لقد تبيّن منذ انتصار الثورة الشعبية أن بلادنا لم تتحصّن بالشكل الكافي ضد خطر التعصب الديني وديكتاتورية الرأي الواحد. فالحركات السلفية التي ما فتئت توسّع في تحركاتها مستفيدة من مناخ الحرية الذي أتاحته الثورة الشعبية تهدد بأن تمرّ في عملها إلى السرعة القصوى وهو ما يعني أننا قد ندخل في دوامة من العنف من الصعب التكهن بنتائجها. كما أن ما بدا على أغلبية الشعب التونسي من عدم استعداد للحوار ومحاولة تغليب الرأي على الرأي الآخر وعدم الاعتراف أصلا بالرأي المخالف يمكن أن يخلق في المستقبل مزيدا من التوتر في المجتمع. إن الأمر يتعلق بالعقليات والعقليات تربى وتتغير حسب المناخ الاجتماعي الذي تتطور فيه. وللأسف فإن الأرضية في تونس اليوم ملائمة لانتشار الحركات المتعصّبة للمعتقد أو للفكرة أو للرأي أو للجهة وفرضية عودة العصبيّات ليست مستبعدة. ولكن هل نحن أمام قضاء وقدر لا مرد لهما؟ لا يمكن أن نسلّم بهذا الأمر لأنّ التونسييّن لو كانوا من بين هؤلاء الذين لا يأخذون بزمام الأمور بأنفسهم لما تسنّى لهم أن يقوموا بتلك الثورة المجيدة ولما تمّ لهم قلع النظام الديكتاتوري من الجذور وهو الذي ظل لسنين طويلة يحصّن نفسه بقوة المال وبالقمع. ولكننا نحتاج لعمل كبير لملء الفراغ الفكري والرّوحي الذي يعاني منه عدد هام من التونسييّن خاصة من الشباب الذين وجدوا أنفسهم فجأة وبعد أن فتح أمامهم باب الحريّة على مصراعيه يبحثون عن مرجعيّات يحاولون من خلالها تحقيق التوازن النفسي. لقد مضت سنوات طويلة على التونسيين كان فيها النموذج الناجح الوحيد أمام أعينهم هو ذلك الذي يحقق في أقصر وقت ممكن أكثر ما يمكن من المكاسب المادية حتى أنه أصبح لا أحد يهتم إن كنت قرأت كتابا أو زرت متحفا أو دخلت إلى رواق فني أو حضرت عرضا مسرحيا أو سينمائيا أو شاركت في نقاشات حول آخر ما صدر من الكتب أو حضرت لقاء فكريا أو أدبيا إلخ.. والمصيبة أن أغلب التلاميذ يقضون سنويا عاما دراسيا كاملا دون أن ترى الهياكل المشرفة على التربية والتعليم أنه عليها أن تنظم ولو في مرات قليلة زيارات إلى متاحف البلاد أو إلى مسارحها إلخ.. كيف يمكن أن نضمن لأولادنا أن ينشؤوا متوازنين نفسيا إذا كانوا يعانون من فقر ثقافي مدقع. إنّ الثّقافة المنفتحة على الكنوز الأدبيّة والفنيّة والفكريّة والمعرفيّة هي حصننا ضدّ مختلف أشكال التطرف مهما كان منبعها ولا نخال أن شعبا يقرأ ويبدع يمكن أن يتخلى عن مكاسبه في الحداثة والانفتاح على العصر. أملنا ونحن نودع عاما أول بعد انتصار الثورة الشعبية أن تعود الكرامة للمواطن كاملة فلا حاجة لنا بخبز مغموس في الذل إذا غابت عنا الحريّة. هذا ما تعلمناه من الشعب الذي نادى بالكرامة والحرية عندما تخلص من الخوف وعندما فك أغلاله بنفسه يوم 14 جانفي 2010.