أتابع منذ أيام كل ما يكتب عن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ، وأطالع كل ما ينشر من مقالات بناسبة ذكرى وفاته، وقد شدني في كل الكلام الذي قيل حوله والذي تناول منجزه السياسية والإجتماعي والإقتصادي كلاما حاول أصحابه إظهار الراحل في صورة الزعيم الأوحد الذي ليس بعده زعيم ورجل الحكم الفذ الذي فقد من هذا الزمان وقائد السياسة الذي لا يجود الزمان بمثله دائما. غير أن كل هذا الكلام يمكن تفهمه في مثل هذا الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد وما تعرفه من لخبطة عجيبة وفوضى عارمة بعد الثورة وما تسببت فيه من ضعف للدولة وضياع لهيبتها، ولكن الذي لا يمكن تفهمه ولا قبوله الكلام الذي يعتبر أن الرئيس الحبيب بورقيبة كان ديكتاتورا مثقفا، وأن كلا من بورقيبة وبن على كان طاغية ومستبدا غير أن الفارق بينهما يكمن في كون الأول كان مثقفا في حين كان الثاني جاهلا، وأن حكم بورقيبة كان أفضل من حكم بن علي رغم أن كلاهما كان مستبدا وطاغية، ذلك أن مثل هذا الكلام في تقديرنا لا يستقيم ولا يمكن قبوله على إعتبار وأن الديكتاتور يبقى دائما ديكتاتورا وأن الطاغية يبقى كذلك طاغية مهما فعل ومهما زين فترة حكمه بمساحيق الأعمال الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية، فالإستبداد السياسي والحكم الظالم لا يمكن أن يقبل و أن السلطة المستبدة لا يمكن أن ترفع صاحبها مهما أنجز، ذلك انه من الصعب نسيان كل سنين الجمر وكل الجرائم التي حصلت في ظل الحكومات السابقة و من الصعب كذلك تجاهل كل القمع السياسي ومنع الحريات وتكبيل أرادة الشعب وفبركة المحاكمات الجائرة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء هذا الوطن العزيز. وإذا كان ثمة ميزة لثورة الشعب التونسي المباركة هي أنها أرجعة المفاهيم السياسية إلى حقيقتها، وأصلحت الخلل الفكري الذي أرغمنا على قبوله قرونا من الزمن بدون أن نجرأ على مراجعته من انه من الممكن أن يكون هناك ملك عادل و طاغية صالح، أو ديكتاتور خير، ومستبد مستنير، فكل هذه النظريات التي تؤسس للظلم والطغيان وتبرر التعسف على الشعوب وإضطهاد الإنسان تحت غطاء العدل الإجتماعي أو الإصلاح الإقتصادي قد ولى زمانها ولم يعد لها مكان في زمن الثورات هذا . يحاول الكثير من أنصار البورقيبية الجديدة أن يعيدوا إلى أذهاننا كل النظريات التي سادت زمن القرون الوسطى حول المستبد العادل والديكتاتور الخير ولكن وفق مسميات جديدة ومصطلحات معاصرة تجعل من الطاغية المثقف أفضل من الطاغية الجاهل ، والمستبد العارف أحسن من الديكتاتور الأمي، غير أن كل هذه الألقاب الجديدة حول فضائل الحاكم الجائر لا يمكن أن تستقيم ولا يمكن أن يرضى بها العقل السليم ولا يقبلها الإنسان الذي سلبت منه كرامته وحرياته تحت غطاء العدل وأستقرار السلطة وأستتباب الأمن ، فكيف يمكن في حكم العقل أن يكون المستبد مثقفا ؟ وكيف يمكن في حكم المنطق أن يقبل الحاكم المستنير إهانة أفراد شعبه وان يسوسهم كقطعان الأغنام ؟ وكيف يرضى الحاكم المثقف أن يقمع الحريات ويلجم الأفواه ويدوس على الحقوق؟ فالإستبداد مهما صاحبه من مساحيق الخير والعدل الإجتماعي يبقى دوما إستبدادا هادما لإنسانية الإنسان، والطغيان مهما حميناه ودافعنا عنه فإنه يهين البشر ويوحلهم إلى عبيد في خدمة الطاغية، والأهم من كل ذلك فإن السياسة الظالمة تغيب القيم الإنسانية النبيلة كالإخلاص والأمانة والصدق والشجاعة، وتجعل مكانها قيما أخرى كالكذب والنفاق والتملق والرياء والتذلل والمداهنة، وتشيع بين الناس سلوك الوصول إلى الأغراض الخاصة ونيل الحقوق بكل الطرق وبأحط السبل. من اجل أجل نقول أن إحياء ذكرى بعض رموزنا مطلوب، وتذكر بعض رجال الوطن محبب، ولكن كل ذلك وجب أن يكون وفق طريقة موضوعية ونزيهة تعطي لهؤلاء الأموات حقهم وتذكر ما لهم وما عليهم وتتعرض لأفعالهم وأعمالهم بدون تشويه أو إخفاء للحقائق والأهم من ذلك بدون أن نحول هؤلاء الرموز إلى أصنام تعبد أو أن نجعل أمواتنا آلهة تقدس، فتاريخنا المعاصر قد عرف حكومات مستبدة ظالمة وسلطات طاغية سخرت مؤسسات الدولة لخدمة مآربها الخاصة وتحقيق نزوات أفراد عائلاتها واحتكرت المال العام وتلاعبت بخيرات البلاد ، كما عرف تاريخنا حكاما مستبدين سرقوا أموال الشعب و وقمعوا الناس ورهبوا العائلات وجزوا بالكثير منهم في السجون ظلما وبهتانا بعد محاكمات باطلة وأحكام قاسية ستبقى وصمة عار في تاريخ هؤلاء الطغاة والذنب الوحيد لكل هذه المآسي والجرم الوحيد الذي إرتكبه هؤلاء الضحايا هو أنهم أرادوا أن يحيوا أحرارا وأن يعيشوا أحررا وان لا يقبلوا أن تهان كرامتهم أو أن تسلب حقوقهم أو أن يسوسهم حكام لا يشاورون شعبهم، ولا يحتكمون إليه في جوانب مصيرية من حياتهم. نذكر بكل ذلك للقول أن المستبد يبقى دائما مستبدا وأن الطاغية يضل طاغية وأن الديكتاتور لا يمكن أن يغير ثوبه وأن الإستبداد بشع وأن الظلم مدان والظلم ظلمات يوم القيامة ، نذكر بكل ذلك للقول أن الطغيان والإستبداد عقلية وسلوك لا تغيرهما الثقافة ولا الفكر، وأن الديكتاتورية إختيار ومنشأ وتربية وحكامنا مع الأسف كانوا كذلك بل كانوا أسوء الطغاة وأتعس الظلمة. إن الإنسان وفق التعريف المعاصر هو كائن حر، وإن الدولة الحديثة هي الدولة التي تقوم على الحريات، وأن الدستور الأمثل هو ذاك الذي يؤسس على فكرة الحرية وأن الأنظمة المطلوبة اليوم هي تلك التي تحقق أعلى مستوى ممكن من الحرية للإنسان، وإن الإنسان الحقيقي هو ذلك الكائن الذي يعرف أعلى مستوى ممكن من حرية الفكر والتعبير ويعيش أفضل مشاركة في الحياة العامة والخاصة في دولة تراعي كرامته وتحترم أدميته فالسلطة في هذه الدولة هي التي تحمي الشعب ولا أن يكون هذا الشعب في خدمة هي السلطة، لذلك كان الإستبداد والطغيان مرحلة مظلمة في حياة الإنسان، ومحطة فارقة في مسيرته عبر التاريخ مما يجعل من المستحيل التزاوج بين الثقافة والقمع، ولا بين الديكتاتورية والعلم ، ولا بين الطغيان والمعرفة، فإما حكم مستبد وإما حكم عادل، أما أن يكون حاكم ديكتاتورا وهو مثقف فهذا لا يقبله العقل ولا المنطق و ترضاه كرامة الإنسان وآدميته.