- مرّة أخرى يخرج منّا مهووس بالعظمة يتحرّق شوقا لتخليد إسمه في التاريخ و لنا نحن أغاني الصبر وآهات العذاب. مرّة أخرى يخرج منّا لاهث وراء مجد شخصي يخال السراب حقيقة و يتراءى له وهم التاريخ مستقبلا بينما يكون نصيبنا، نحن، ضنك العيش و مرّ الحسرة. مرّة أخرى يكشف واحد منّا عن غيرته من الإسكندر الأكبر و من نابوليون و من عظام الغزاة و يبتغي لإسمه مكانا بين أسمائهم و يرسلنا، نحن، لليالي العذاب و لأيّام البؤس و الشقاء. مرّة أخرى يقوم فينا من يتخبّط رغبة في بناء هرمه العظيم على أكوام جماجمنا ليخلّد التاريخ ذكراه و يلتهمنا نحن العدم. مرّة أخرى يقوم فينا من نقول له نحن نريد بناء المستقبل و تطويع القدر فيقول لنا أنّ طفولتنا السعيدة في نجد و تهامة و الربع الخالي و يصرّ أن يصادر أحلامنا الإنسانيّة العفويّة البريئة ليُلقِمَنا أضغاث أحلامه العظيمة الخالدة العابرة للحدود. نقول له نريد أن نأكل و نشرب و نعمل و نشيّد و نبدع ونضحك فيقول لنا أنّ همومنا أعظم و أكبر و أنّنا إذا تقاسمناها هانت و اضمحلّت. مرّة أخرى يُلِمُّ بنا المتطبّب الألف ليُطعمنا وهم الوطن الكبير و الصحاري الممتدّة و يدثّرنا بغطاء مجْد الفتوحات و عَظمة الخلفاء و يداوينا بالشعر الجاهلي وأخبار العرب و مجالس الأنس و السّمر في البلاط. مرّة أخرى يتفرّخ منّا العصابيّ الألف فيُظهر بعض التاريخ و يُخفي كثيرا منه فيُحدّثنا عن حدود الدولة المترامية و يكتمنا وأْد الحريّة و يحدّثنا عن عظمة الخلفاء و هيبتهم و يصمت عن بؤس الناس و ذلّهم و يحدّثنا عن الغزو و قتل الأعداء و يُخفي عنّا قطع الرؤوس و التنكيل و مصادرة الأرزاق. مرّة أخرى يأتينا البطل الواحد بعد الألف ليذود على حياض غرورنا و كبريائنا و شرفنا و يطمئننا أنّنا سرب صغير من قطيع كبير موزّع بين صحراء و صحراء و بين القرون الوسطى و القرن الواحد و العشرين. نقول له نريد أن نضع قانوننا و نسُوس أمورنا وحدنا حسب واقعنا و حسب عصرنا فيقول لنا أن السعادة هي أن يأتينا القانون بمرسوم من السلطان على بريد الخيل من بعيد، من قديم. مرّة أخرى يتسلم دفّة مركبنا المُبحر في عاصفة هوجاء ربّان يتقاذفه نزق المغامرة و أحلام الطيش فينطلق في التزلّج الهستيري على الماء و يُضيع منّا البوصلة و يرى في ظهر كلّ حوت فاتك، اليابسة. مرّة أخرى لا ينصفنا الزمان و يبتلينا بمن يبتغي أن يذهب برشدنا. مرّة أخرى يأتينا من يريد أن يستنقذنا من سجن العقل ليطمرنا في سرداب الوهم.