بقلم: مصطفى البعزاوي قدم الكاتب في الجزء الأول من مقاله أمثلة عن بعض الانحرافات التي حدثت في المشهد الإعلامي متسائلا في النهاية عما إذا كانت تلك الصور والأمثلة تدخل في باب الجهد الجماعي الصادق لبناء مجتمعنا ومستقبل أبنائنا أم أنها تعبّر عن موقف متمرّد لإعلام سياسي وفكري يرفض نتائج الصندوق . وفي الجزء الثاني والأخير من مقاله يقول الكاتب: نحن نطالب بحقنا في الإعلام الذي يشارك في بناء مجتمع جديد كلنا يتحسس شكله وهيئته فليست لنا سابقة و لا نموذج ولسنا بحاجة للإعلام الذي يخيل إليه انه «طز حكمة» كما لا ندافع أو نطالب بإعلام حزبي. نحن نطالب بكاميرا تجوب الشوارع لرفع الوعي العام و مقاومة الانفلات و الإعتصامات و الإنتصاب الفوضوي و الدفاع عن البلاد من التخريب و الخراب و لا نريد كاميرا تكشف فجأة كل عورات الدنيا مجتمعة لبث الإحباط و تضخيم التحديات و إدخال البلاد في المجهول. من حقي و من حق كل مواطن أن يشعر أن وسائل الإعلام العمومية هي همزة الوصل بينه و بين محيطه الذي لا يراه و ربما لا يجد الوقت ليراه. و ليس من حق الصحفي أن ينفرد بمرفق عام ليعطينا دروسا في ما يصلح و لا يصلح من السياسة و الثقافة والاقتصاد و الفن. ليس من حقه أن يحول مرفقا عموميا إلى دكان من دكاكين السياسة و منبرا من منابر الغضب و الرفض لمعدل المجتمع الذي أفرزته الانتخابات. العمل الصحفي المهني لا تشعر فيه بالصحفي و هو يدير الحوار أو يغطي ظاهرة أو يحلل مسالة. و أعتقد, مع كثير من الأسف, أن المؤسسة الإعلامية لم تتطهر من العقيدة التي رباها عليها عبد الوهاب عبد الله. نحن الآن في تونس لنا مشروع مجتمع جديد و لنا حكومة و سلطة شرعية أمامها استحقاقات, و هذه الحكومة, و كل حكومات العالم, لها أدوات للتواصل مع مواطنيها وأول هذه الأدوات هي الإعلام العمومي, فكيف يعمل الإعلام العمومي على تدمير هذا المشروع بالهمز و اللمز و التلميح و التصريح الذي لم يعد خافيا على أحد. هذا اللغم في حقيقة الأمر هو إدارة لصراع فكري و عقائدي بين توجهات نخب الإعلام و بين اختيارات و توجهات السلطة السياسية الجديدة هو تعبير صارخ عن رفض لنوعية الطبقة السياسية الجديدة التي افرزها الصندوق حتى لو أوقدوا أصابعهم شمعا وهذا التمرد الإعلامي هو من جنس الحروب الإستباقية, لكنهم مع ذلك يخسرونها و يفوتون على البلاد كثيرا من الجهد و الوقت لأن الوعي و الهم العام في غير هذا الوادي. ما هي القوانين و الإجراءات العملية التي اتخذتها الحكومة الجديدة التي تهدد حرية الإعلام حتى تنفلت كل الإذاعات و التلفزات صراخا و عويلا و تقيم المآتم على « خطر» حرية الإعلام؟ متى كان إعلامنا حرا حتى نبكي عليه؟ و هل للإعلامي المهني و المسؤول أن يرفض اللون السياسي لحكومة منتخبة و يسعى لاستغلال مرفق بوأه المجتمع أن يكون فيه ليصطف لفكر أو موقف أو رؤية؟ وهل له الحق أن يحاكم النوايا و يقرأ الغيب؟ كل التصريحات التي سمعتها تتحدث عن نية الحكومة تدجين الإعلام, فهل المهنية هي استباق النيات؟ هل ينتفض الإعلامي على السياسيين ما داموا لا يعجبونه و لا يوافقون فكره الثوري و توجهاته التقدمية؟ فمن هو الإعلامي حتى يصبح معيارا للصلاح والفساد؟ أليس فردا من هذا المجتمع؟ و من الآخر, هل يصلح مريدو الإعلام العبد الوهابي لإصلاح الإعلام؟ هل المرفق العمومي هو مرفق عمومي أم دكان خاص؟ هل مجرد العمل داخل مرفق الإعلام العمومي يبيح لصاحبه «الإعلامي الحر» أن يعطينا دروسا في «الثورية والتقدمية» لشكل الدولة و المجتمع؟ ما الفرق بين وسائل الإعلام العمومية التي تمول من المال العالم وبين الأمن و الجيش و الصحة والتعليم والإدارة العمومية؟ هل ندفع الضرائب ونرصد الميزانيات لوسائل الإعلام العمومية لتثبت لنا أن السلطة العمومية المنتخبة التي أفرزتها الثورة، لا تروق لها وهي خطر على مستقبل البلاد؟ هل تتحول ثورة تونس من ثورة الشباب المظلوم و المحبط و العاطل عن العمل, ثورة الفقراء و المهمشين على الظلم و الفساد و نظام العائلات و اللوبيات المستنفذة, ثورة الفقر و الفاقة و اختلال التنمية و انعدام الفرص إلى ثورة النخب على الحكومة الشرعية؟ هل يمكن أن تطال الثورة المضادة كل مؤسسات الدولة و المرافق العامة, حتى الإعلام؟ إن هذا الاصطفاف الإعلامي ضد السلطة الشرعية هو اصطفاف لا لبس فيه و لا مواربة لذلك أدعو هذه الحكومة إلى إعفائي، و إعفاء كل من يطلب ذلك، من دفع معاليم الإذاعة و التلفزة كما أطلب منها أن تعلن على مناقصة للتفويت في كل هذه المؤسسات و تريحنا و تريح نفسها من اقتطاع جزء من الموازنة تخصصه للفقراء والمعدمين و بناء المدارس و المستشفيات لأني بكبسة زر أتابع كل أخبار الدنيا مجانا و دون أن يهتز ضغطي. هذه ليست دعوة « أنصر من صبح « لكنها دعوة للم شمل هذا المجتمع الذي تحولت فيه كل الدوائر تقريبا إلى دكاكين سياسية بثقافة حزب « توة « في وقت تفككت فيه هيبة الدولة و خاصيتها الجامعة لكل أبناء المجتمع, فكل الأطياف تريد أن تستقل بمواقعها. نريد دولة قوية, و نظاما عادلا و أمنا مستتبا و قضاء مستقلا و اقتصادا منتجا و توزيعا عادلا للثروة و الفرص و ثقافة هادفة و تعليما بناءو إعلاما عموميا حاضنا لكل هذا المشروع لا إعلاما عموميا يستفرد بتعليمنا و يملي علينا خياراته التي تحملنا سمومها طيلة خمسين سنة كاملة. هذه العناوين ليس أوتوبيا أو خيالات بل هي أهداف الثورة الحقيقية لتونس الولادة والمعطاءة. و إن غدا لناظره لقريب. وفي الأخير أذكر أني لا أنتمي إلى أي حزب و لم أنتم إلى أي حزب.