- منذ أن نجحت الثورة في تونس ومصر ضد نظامي بن علي ومبارك لم يتوقف الحديث في تركيا وخارجها عن النموذج التركي ومحاسن الاقتداء به من قبل العديد من القوى والدول العربية، باعتباره نجح في التوفيق بين الإسلام والعلمانية وحقق قفزة اقتصادية كبرى. و مع صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في تونس ومصر اختلف رأي المتابعين للشأن العربي حول إمكانية تطبيق النموذج التركي في هذين الدولتين من عدمه. إن التعايش بين الإسلام والديمقراطية لم يتحقّق في تركيا بفضل قيام حزب العدالة والتنمية بتطوير مؤسسات وهيكليّات سياسية تجمع بين المبادئ الإسلامية والديمقراطية، بل لأن الإسلاميين الأتراك ? وكما ذهب سياسيون إلى القول - أنفسهم قبِلوا الإطار العلماني-الديمقراطي للدولة التركية، وهذا الشرط قد لا يتوفر لدى غالبية التونسيين والمصريين. أمر مستبعد تؤكد العديد من الدراسات والتحاليل لخبراء في العلاقات التركية العربية انه لا يمكن الحديث عن «نموذج تركي» مرتكز على ما اصطلح على تسميته ب»الإسلاموّية المندمِجة» (أي دمج بين ما هو إسلامي وما هو علماني )، بل هناك مسلمون في دولة علمانية-ديمقراطية تعمل في إطار «نيوليبرالي». كما أن العوامل البنيوية والمؤسّساتية في تركيا (أي هيكلة الدولة ) فريدة من نوعها تاريخياً، لذلك من المستبعد إلى حد كبير أن نشهد عملية مماثلة في مصر وتونس . ففي مصر ستفرض الظروف المختلفة تماما عما شهدته تركيا على التيّار الإسلامي (أو القيادة الإسلامية الجديدة في بلد الفراعنة) فصل وظائفه السياسية عن وظائفه الدينية، ويتيح للحزب السياسي تمثيل مختلف مصالح الناخبين. وبسبب هذا كلّه، ستكون مهمّة الإسلاميين في مصر أصعب من مهمة نظرائهم في تركيا، إذ يتعيّن عليهم أن يتخلّوا عن عادات الهرمية والتبشير المتجذرة في النفوس من أجل بناء نظام ديمقراطي ذي مؤسّسات فريدة. أما في تونس فان السواد الأعظم من الرأي العام الباحث عن حقوقه وعلى رأسها حقه في العمل سيضغط بدوره على الحكومة الائتلافية التي تواجه مصاعب جمة نظرا لثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها. كما أن مدة عملها المحددة بسنة مع إمكانية إضافة 6 أشهر سيجعل من عملها ظرفيا ومقترنا بما حدد لها فقط وبذلك لا يمكن الحديث عن تطبيق لأي نموذج تركي كان أو عربي. تسويق «النموذج التركي» لم تكن تركيا مهتمة بالانفتاح على العالم العربي والإسلامي، فقد كانت عيون الأتراك متجهة شرقا نحو النادي المسيحي، حيث وضعت شروط كثيرة وعقبات عدة في طريق تركيا نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن أربكان عمل على تمتين علاقات أنقرة بإيالات الإمبراطورية العثمانية سابقا. وإن اختلفت الأهداف من وراء الانفتاح على العالم الإسلامي من أربكان إلى داود أوغلو منظر السياسة الخارجية التركية، فإنّ جدار الصد المسيحي دفع بتركيا حسب مراقبين إلى العودة إلى مجالها الحيوي القديم. ففي كتابه الشهير «العمق الاستراتيجي»، أكّد أوغلو ضرورة أن تعمل تركيا جاهدة لتأكيد دورها الإقليمي، وتعزيز علاقاتها العربية والإسلامية وبالشعوب ذات الأصول التركية في إعادة تموضع جزئية. وفي ظل سقوط أنظمة عديدة في الشرق الأوسط وإفريقيا، تبحث أنقرة عن تسويق نموذجها مستغلة في ذلك الفراغ الإستراتيجي الذي تركته الثورات العربية وراءها. كما الحديث عن نموذج تركي لا يتعلق فقط بسعي إلى دعم ركائز السياسة الخارجية التركية، وإنّما أيضا بما يصفه مراقبون بطبخة أعدت في الدوائر السياسة الغربية، تتمثل في طرح نموذج إسلامي معتدل يصلح للعالم الإسلامي، من المغرب إلى اندونيسيا مرورا بأفغانستان وباكستان والعراق. حزب بلغة علمانية يعتبر كثيرون أن حزب «العدالة والتنمية» يعد حزبا ديمقراطيا محافظا يتحادث من منظوريه داخل تركيا وخارجها بلغة اقرب إلى العلمانية من الإسلام. في المقابل فان إسلاميي الثورات العربية الصاعدين إلى الحكم لم يواجهوا تشددا علمانيا شبيها بالتشدد العلماني التركي. كما أن هذا النموذج قد بدأ يتلقى العديد من الانتقادات إذ وصفه منتقدوه بالنموذج السلطوي لمعجزة اقتصادية في طريقها نحو التراجع . وفي هذا الصدد يقول أتيلا يشيلادا ?المستشار الاقتصادي لمنبر إسطنبول أناليتيكس، وهو مركز إعلامي متخصص في الشؤون الاقتصادية والسياسية التركية- :»إن الشعب كله بدا وكأنه مفتون ومخدر حتى اعتقد أنه في وطن فريد، وأنه هو الذي صنع نموذجه الاقتصادي الناجح.» ، وبذلك لا يمكن الحديث عن نموذج تركي ناجح في ظل التطورات الأخيرة في العالم خاصة في القارة الأوروبية الشريك الأكبر للاقتصاد التركي. خلاصة القول أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستنسخ النموذج التركي في تونس ومصر حتى في ظل صعود الإسلاميين إلى الحكم لأن ظروف وضوابط وعرف المجتمع التركي وطريقة عيشه تختلف تماما عن نظيرتيها في هذين البلدين؛ فتونس والقاهرة مطالبتان اليوم بإنتاج نموذج خاص بهما يأخذ بعين الاعتبار خصوصيتها التاريخية وجميع مكوناتهما الدينية والسياسية. صحيح أنّ أغلب المحللين يتحدثون عن نموذج تركي متكامل، إلا أنّ لهذا النموذج خصوصيات تاريخية وسياسية لا تجعل منه قابلا للتصدير خارج تركيا، في حين يذهب البعض الآخر إلى الحديث عن تجربة تركية يمكن الاستفادة من جوانبها الإيجابية ومحاولة إنتاج تجربة خاصة بكل بلد.
انقرة من أربكان إلى أردوغان يعد نجم الدين أربكان رائد تيار الإسلام السياسي في تركيا، فقد أنشأ سنة 1970 حزب «النظام الوطني»، الذي كان أول تنظيم سياسي يعلن بوضوح هويته الإسلامية، ولم تمض 9 أشهر حتى تم حله ، بعد إنذار من قائد الجيش آنذاك محسن باتور. ولم تقف مسيرة أربكان عند هذا الحد بل قام بتأسيس «حزب السلامة «وذلك سنة 1972 الذي فاز ب50 مقعدا، مما سمح له سنة 1974 بدخول الحكومة الائتلافية منافسا لحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك. ومنذ ذلك الحين أصبح التيار الإسلامي معترفا به في تركيا بصفة عملية. وفي سنة 1980 تقدم الحزب بمشروع قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وحجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أربكان بسبب تأييده لإسرائيل. وأسس بعد ذلك حزب «الرفاه الوطني» الذي تمكن في انتخابات 1996 من الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان وشكل الحكومة مع حزب «الطريق القويم» برئاسة رئيسة الوزراء السابقة» تانسو تشيلر». «الابن الروحي» يصوّر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نفسه على أنّه «الابن الروحي» لأربكان فقد تشبع من أفكاره ومواقفه بشكل كبير. وقد انخرط في سن مبكرة في حزب «السلامة الوطنية»، وظل عضوا في حزبي «الرفاه» ثم «الفضيلة» اللذين شكلهما أربكان إثر موجات الحظر التي كانت تطال أحزابه. وفي سنة 1985 أصبح أردوغان رئيسا لفرع حزب «الرفاه الوطني» في إسطنبول، وفي سنة 1994 فاز برئاسة بلدية إسطنبول. إلا أنّ «الابن» سرعان ما انشق عن نهج «أبيه»، فبعد حظر حزب «الفضيلة» انشق أردوغان مع عدد من الأعضاء ومنهم وزير خارجيته الحالي عبد الله غول وشكلوا حزب «العدالة والتنمية» في سنة 2001. «خلع العباءة» عمل اردوغان حسب مراقبين على أن يتخلص بشكل تام من عباءة أربكان الإيديولوجية، فأعلن أن «العدالة والتنمية» سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في صدام مع القوات المسلحة التركية، مذكرا في أكثر من مناسبة بأنّ حزبه متمسك بالأسس التي وضعها أتاتورك لتركيا العلمانية.