إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    الرابعة على التوالي: الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز إف 35    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    اتحاد الشغل يدعو النقابيين الليبيين الى التدخل لإطلاق سراح أفراد قافلة "الصمود"    نتنياهو: "إغتيال خامنئي سيُنهي الصراع".. #خبر_عاجل    عاجل/ وزير الخارجية يتلقّى إتّصالا من نظيره المصري    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    من تطاوين: وزير التربية يشرف على انطلاق مناظرة الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    حالة الطقس هذه الليلة    "سيطرنا على سماء طهران".. نتنياهو يدعو سكان العاصمة الإيرانية للإخلاء    تظاهرة يوم الابواب المفتوحة بمعهد التكوين في مهن السياحة بجربة .. فرصة للتعريف ببرنامج التكوين للسنة التكوينية المقبلة وبمجالات التشغيل    تعيين التونسية مها الزاوي مديرة عامة للاتحاد الافريقي للرقبي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    عاجل/ إضراب جديد ب3 أيام في قطاع النقل    الشيوخ الباكستاني يصادق على "دعم إيران في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية"    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    عاجل/ هذا موقف وزارة العدل من مقترح توثيق الطلاق الرضائي لدى عدول الإشهاد..    منوبة: الاحتفاظ بمربيّي نحل بشبهة إضرام النار عمدا بغابة جبلية    إجمالي رقم اعمال قطاع الاتصالات تراجع الى 325 مليون دينار في افريل 2025    كأس العالم للأندية: تشكيلة الترجي الرياضي في مواجهة فلامنغو البرازيلي    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    من هو الهولندي داني ماكيلي حكم مباراة الترجي وفلامينغو في كأس العالم للأندية؟    منذ بداية السنة: تسجيل 187 حالة تسمّم غذائي جماعي في تونس    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    كيف نختار الماء المعدني المناسب؟ خبيرة تونسية تكشف التفاصيل    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    الحماية المدنية: 536 تدخلا منها 189 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    صاروخ إيراني يصيب مبنى السفارة الأمريكية في تل أبيب..    وفد من وزارة التربية العُمانية في تونس لانتداب مدرسين ومشرفين    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    كأس العالم للأندية: برنامج مواجهات اليوم الإثنين 16 جوان    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    "صباح الخير يا تل أبيب"!.. الإعلام الإيراني يهلل لمشاهد الدمار بإسرائيل    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    إطلاق خط جوي مباشر جديد بين مولدافيا وتونس    المؤشرات السياحية بطبرقة عين دراهم تسجل تطورا هاما    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على هامش الاستشارة الوطنية حول تحديث الوظيفة العمومية: رؤية سوسيولوجية (1 3)
«الصباح» تفتح ملف تحديث الوظيفة العمومية
نشر في الصباح يوم 08 - 01 - 2008

تفتح «الصباح» ملف تحديث الوظيفة العمومية وذلك على هامش قرار رئيس الدولة بتنظيم استشارة وطنية لتحديث الوظيفة العمومية خلال السنة الجارية.
ارتأينا في هذا السياق نشر دراسة قام بها الباحث محمد زهير حمدي بخصوص هذا الموضوع ننشر اليوم الجزء الأول منها. علما أن كل مساهمات القراء الكرام وتعاليقهم حول الملف مرحب بها لإثراء الحوار.
من بين المحاور التي تضمنها خطاب سيادة رئيس الجمهورية بمناسبة الذكرى العشرين للتحول الإذن بالقيام باستشارة وطنية لتحديث الوظيفة العمومية ودعم قدرتها على مواكبة التحولات الجارية . ولهذا القرار مبررات عديدة، إذ مضى على صدور القانون الحالي للوظيفة العمومية ربع قرن (1983)، ويجد هذا القانون مرجعيته في الموروث الثقافي القانوني والإداري للنموذج الفرنسي الذي هيمن على مشهد الإطار المنظم للتصرف في القطاع العمومي بشكل عام وعلى الوظيفة العمومية بشكل خاص وذلك على مدار أكثر من قرن من الزمان. لذلك باتت الحاجة ملحة إلى إدخال إصلاحات في العمق حتى تستجيب الوظيفة العمومية إلى متطلبات الدور الجديد للدولة ومقتضيات تطوير الادارة انطلاقا من الوعي بجسامة دورها التنموي في هذه المرحلة (1). ومن ناحية أخرى تجد هذه الإستشارة مبرراتها في ما بات يتسم به المشهد السياسي والاقتصادي الجديد من إزالة تصاعدية للحدود الاقتصادية بين الدول وظهور تكتلات تجارية ومالية صاعدة وسط ثورة اتصالية هائلة ازدادت فيها المنافسة شراسة مما يضع المؤسسة والإدارة بشكل عام أمام تحديات جديدة يحتم عليها تطوير جودة آدائها، ويمرّ هذا حتما عبر استنفار كل طاقاتها وتعبئة مواردها المادية والبشرية خاصة والتي تعتبرعماد نجاحها وسط محيط تكون فيه الأوراق الإستراتيجية الرابحة لهذه المنافسة التجديد والابتكار والجودة (2).
لقد أصبحت الاستشارة من الآليات المعتمدة في تونس على غرار كثير من الدول، حيث يجري الحوار في بريطانيا داخل مجلس العموم لاعتماد هذا الأسلوب في القضايا الحيوية وذلك باعتبارها أسلوب للمشاركة الجماعية في صنع القرار انطلاقا من كونها فضاء يعكس طموحات الشعب وتقديراته للمستقبل بما يتيح الفرصة لأهل الخبرة والاختصاص لطرح مختلف الفرضيات والاحتمالات الممكنة والمتوقعة لذلك المستقبل (3). فالإستشارة وفق هذا المفهوم، يفترض أن تكون إطارا مثاليا يمارس فيه أكبر قدر من ذوي الاختصاص، عملية الجدل الاجتماعي والحوار بما يمكّن من تشخيص قضايا الوظيفة العمومية ومشاكل الهياكل الإدارية كخطوة أولى نحو بلورة فهم مشترك لها ثمّ وضع الحلول الأنسب في ضوء هذا الفهم ليتمّ تبعا لذلك تنفيذ ما توصلوا إليه من حلول. ووفق هذا الأسلوب فإن الحلول التي سيتمّ التوصّل إليها سوف تكون بلا ريب على غاية كبيرة من النضج باعتبارها نتاجا لممارسة مجموع الناس للجدل الجماعي الذي من خلاله فقط تكمن قدرة المجتمعات على التطور والتقدم، إنها شكل من أشكال الممارسة الديموقراطية من الناحية النظرية. ويزيد من أهمية هذه الاستشارة أنها سوف تنصب على ملف على درجة كبيرة من التعقيد والتشعّب يمسّ قضايا متنوعة ويهمّ أطراف مختلفة ومن أهمها الإدارة كجهاز حيوي بالنسبة إلى الدولة والمجتمع وكذلك العاملين بها الذين يتجاوز عددهم 430 ألف موظف، كما تتداخل في مسار فهم هذا الملف ومعالجته اختصاصات ومعارف وعلوم مختلفة ( اقتصاد - تصرّف - قانون - علم اجتماع ..).
وعلى الرغم من أن الموظف العمومي يعدّ أحد أهمّ الفاعلين في منظومة الوظيفة العمومية ، موضوع الإستشارة، فقد ظل على الدوام شخصية أسيرة للميثولوجيا الأدبية والسياسية والدراسات الكلاسيكية الأقرب إلى الأحكام المعيارية والفهم المشترك للعامة وذلك نظرا لندرة الدراسات السوسيولوجية حول حقيقة سير الهياكل الإدارية والحراك الاجتماعي الذي تعيشه، وبالتالي دراسة المسار المهني للعاملين وفق أدوات تحليل السوسيولوجية. فالاختصاصات التقليدية كالقانون الإداري والاقتصاد السياسي والعلوم الإدارية والتصرّف لم تعد قادرة لوحدها على الغوص في أعماق هذه المنظومة إلا جزئيا ومن وجهة نظرها فقط، فهذه الإختصاصات ولئن كانت ضرورية فإنها تدرس القاعدة القانونية (الأعمال الإدارية - النشاط الإداري) والحياة الرسمية والشكلية لعالم الوظيفة العمومية فقط، وبذلك لا يمكنها أن تتناول بالتحليل المعمّق كيفية سير الجهاز الإداري وحركة الأعوان العموميين إلا بصورة غير مباشرة (4). وأمام تنوع الإختصاصات العلمية التي ذكرنا وتداخلها في هذه المادة وإشكالياتها تتولد هنا العديد من التساؤلات منطلقها الفكري والنظري المعركة التقليدية بين إمكانية التعايش بين القواعد المنظمة للوظيفة العمومية ( القانون ) ومقتضيات قواعد التصرف الحديث في الموارد البشرية على اعتبار أن المشروعية القانونية ميدان رجال القانون في حين أن النجاعة والفعالية حكر على صانعي القرار والمسيّرين (5).
في هذا الخضم نعتزم الإجابة عن الأسئلة التي طالما خامرت الكثير من الباحثين والعاملين في هذا القطاع من خلال تحليل الظاهرة بكل أبعادها رغم وعينا بمحدودية ما سنحاول تقديمه من إجابات، لا سيما أن هذا الملف مازال حقل بحث غير مدروس بالوسائل التي سنعتمدها (علم اجتماع القانون)، فهو حقل مهني وعلمي محتكر بامتياز على الإداريين أو فقهاء القانون الذين يرون فيه ويتعاملون معه كمجال ملكية خاصة، بل ربما قد يناصبون العداء لمن يعارضهم من حيث المنهج وأدوات التحليل وآليات تشخيص المشكلات وتحديد الأولويات ومن ثم تقديم الحلول، كما لو كانوا قادرين على جعل القانون متعاليا عن الواقع الذي نعيش وتتم فيه حركة الواقع داخل التاريخ الذي لا يمكن لأحد أن يدّعي ملكيته في عملية إدّعاء للعصمة مما أسماه عالم الإجتماع الفرنسي"Bourdieu" النفاق الجماعي للقانونيين (6). وانسجاما مع المنهج العلمي الذي سنسعى قدر جهدنا الإلتزام به في هذه المساهمة الفكرية فإن تطبيق أدوات بحث علمية على موضوع الدراسة يتطلب منا أولا تحديد المفاهيم الفنية والعلمية التي سيتم تداولها وضبط معانيها في السياق الذي نروم اعتماده حتى لا يكون مسقطا عليه أو خارجا عن سياقه وليكون متماشيا مع المنهج وأدوات التحليل التي اعتمدناها.
بادئ ذي بدء لا بدّ من الإشارة إلى أن القرار الرئاسي حول الإستشارة قد ربط بين معطى الإدارة العمومية كعامل مؤثّر في عملية التنمية وبين دور العنصر البشري في تحقيق هذا الهدف، ولم يكن هذا الربط بين عنصري المعادلة جزافا بل إنه ربط منهجي وموضوعي يعكس استحالة فصل البعدين عن بعضهما من الناحية العملية وتأكيد لتأثيرهما المتبادل في بعضهما البعض. فالهياكل الإدارية إنما يسيّرها بشر لهم معارفهم ومشاغلهم وهمومهم وانتظاراتهم واستراتيجياتهم المختلفة. فانطلاقا من حالة الحراك الاجتماعي داخل منظومة الوظيفة العمومية ، فإن الموظف هو اللاعب الرئيسي في النشاط الإداري وهو ما يفسّر مخاطبة المدوّنة التشريعية والترتيبية ذات الصلة لشخصه. لذلك من الصعوبة بمكان الفصل بين معطى التجديد الإداري وتعميق الإصلاحات وتطوير آداء الهياكل الإدارية وبين تطوير قدرات الموارد البشرية، فإذا كان آداء الإدارة العمومية ناجعا أو العكس أو ضعيفا أو قويا فإن وراء كل ذلك أعوان يفعلون ويسيّرون ويقررون ويتركون بصماتهم على النشاط الإداري والعمل الإداري. تلك هي العلاقة الجدلية بين التنمية الإدارية وإصلاح الوظيفة العمومية.
من هنا يصبح الإطار المنظم للوظيفة العمومية بمثابة التعبير القانوني عن العلاقات القائمة بين الإدارة وأعوانها الذين يعتبرون إما أعضاء في جماعة خاصة أو أفراد لهم حقوق وعليهم التزامات في نطاق المهام المناطة بهم وذلك باعتبار أنّ الوظيفة العمومية مجموعة مبادئ وأحكام تخضع لها أصناف معينة من العاملين في الدولة أو بعض المؤسسات المسيرة للمرافق العمومية التابعة لها والذين لا تنطبق عليهم أحكام القانون المتعلق بأعوان المنشآت العمومية أو أحكام مجلة الشغل. هكذا نجد أنفسنا مباشرة أمام الفئة المعنية بالإستشارة، فهي لا تشمل الموارد البشرية بشكل عام ولا حتى كل العاملين في القطاع العمومي. وبلا ريب فإن تحديد مجال الاستشارة سوف يكتسي أهمية بالغة نظرا لتعلقه بالنظام القانوني الذي يخضع له الشخص الذي يعمل لدى الدولة والهيكل الذي يعمل فيه وبالتالي تحليل قواعد وطرق التصرف في مساره المهني، وهذا سوف تترتب عنه نتائج مختلفة.
انطلاقا من هذا التأصيل النظري والمنهجي يكون مناط مفهوم الوظيفة العمومية عنصرين اثنين من الصعب تناول أحدهما بمعزل عن الآخر، هما الموارد البشرية من جهة، والإدارة من جهة أخرى.
- مفهوم الموارد البشرية
يحيلنا هذا المفهوم إلى التنظيم (Organisation)، سواء كان مؤسسة أم إدارة، والذي يعتبر بمثابة برمجية معلوماتية (Logiciel) يسعى من خلاله رئيسه إلى استخدام أكبر قدر من الطاقات والإمكانات في التسيير والقيادة. ويتعيّن علينا هنا أن نفرّق بين الإدارة وقواعد تسييرها من جهة، واستراتيجيتها من جهة أخرى. فإذا كانت الإدارة هي العنصر الثابت الذي ينبغي على المسيّر تفعيله فإن وظيفة الإستراتيجيا تتمثل في تعبئة وحشد الموارد المادية والبشرية المتاحة لديه من أجل بلوغ الأهداف المرسومة (7). وبعيدا عن الجانب الشكلي لعملية إدارة الموارد البشرية فإنها تعني من حيث المضمون جملة القرارات والإجراءات التي يتخذها التنظيم لإدارة مشاكل الأفراد العاملين به. فهي بهذا المعنى ترجمة لمجموع الأنشطة المتعلقة بالحصول على هذه الموارد النادرة وتطويرها في مرحلة ثانية ثم الحفاظ عليها أخيرا.
ولهذا الغرض، عادة ما تغطّي عملية إدارة هذه الموارد أنشطة متعددة ومختلفة لعلّ أهمها إدارة الأعوان التي تعتبر نشاطا موحّدا لا يحتاج إلى كثير من الخلق والإبداع، ومن مظاهره تطبيق الأحكام القانونية والترتيبية ذات الصلة بالوظيفة العمومية ( النظام الأساسي العام - الأنظمة الأساسية الخاصة ....) ومسك ملفات الأعوان وضبط قائمات الأجور ومعالجة المشاكل اليومية. غير أن هذا الدور بدأ يفقد قيمته أمام التحويل المتنامي لجزء كبير من هذه المهام من يد المتصرفين إلى المنظومات والتطبيقات المعلوماتية (إنصاف .....) أما نشاط التصرف في الأعوان فيضيف بعدا جديدا للعملية الأولى باعتباره يتضمن عنصر التوقع وينزع إلى تحليل الأوضاع بطريقة علمية للإعداد لاتخاذ القرارات في إطار سياسات متوسطة وبعيدة المدى، بطريقة تؤدي إلى استشراف الإشكاليات قبل حدوثها. أما النشاط الثالث فهو تطوير الكفاءات الذي يتمثل في تشجيع القدرات الإدارية والخبرات وتطوير مهاراتها وتنميتها لمجابهة التحديات الوطنية والإقليمية والعالمية (8).
2 - مفهوم الإدارة
تنصب الإدارة على تصريف الشؤون العامة ، بحيث تسمّى مؤسسات إدارية الهياكل المكلفة بهذه الأنشطة . لذلك يعتبر بعض الفقهاء أن تسيير الشؤون العامة هو بمثابة النشاط والوظيفة المسندة من المجتمع إلى مجموعة أشخاص وهياكل مثلما توجد وظيفة تشريعية ووظيفة قانونية. لكن فكرة الإدارة تعزى بالأساس إلى ضرورة إيجاد جهاز مكلف بضمان تطبيق القانون وتنفيذه. ولئن اختلف فقهاء القانون والمختصين في العلوم الإدارية في تعريف الإدارة فإنهم قد اتفقوا على أنها لا تخرج عن دائرة الوظيفة أو النشاط الذي يقوم به الإداري وليست فقط بمعنى الهيئة التي تدير. لذلك تقوم الإدارة على فن استخدام العلم حتى تؤتي الممارسة أفضل النتائج في موقف معين، وبالتالي فإن هذا العلم يتيح لرجل الإدارة ما ينبغي أن يلتزم به من قواعد، في حين يتيح له الفن تطبيق تلك القواعد بقدر من الفعالية. ومهما كانت مسافة هذه الإختلافات فإن هناك شبه إجماع على الوظائف التالية للإدارة:
- التخطيط: يعني دراسة واختيار وسائل تنظيم الموارد البشرية والمادية وتوجيهها لتحقيق الأهداف في فترة زمنية معينة وفي مكان معين.
- التنظيم: هو الوضع الذي تشكّل فيه القوى العاملة والإمكانات المادية في الهيئة وتتحدّد العلاقات بينها لبلوغ هدف معين ويشمل الهيكلة التي يتكون فيها العاملون وتحديد مشمولات كل منهم وسلطاته في إطار لوحة قيادة توضّح هذه المسائل.
- التحفيز: يرتبط بعملية التوجيه داخل التنظيم حتى تنصب جهود جميع العاملين في اتجاه يضمن تحقيق الأهداف المشتركة له.
كانت تلك مقدمة نظرية أملتها ضرورة تحديد الإشكالية وضبط المفاهيم والمصطلحات حتى يتسنى لنا البناء عليها خلال تحليلنا للموضوع إنطلاقا من تشخيص الواقع الحالي لمنظومة الوظيفة العمومية مرورا إلى محاولة تلمس آفاقها المستقبلية ومن خلالها مستقبل الإدارة التونسية وما يمكن أن تسهم الاستشارة في بلورته من رؤى ورسمه من أهداف.
- تشخيص الوضع القائم
من الناحية التاريخية أدى التطور الذي شهدته وظيفة المرافق العمومية إلى ازدياد هائل في حجم العاملين فيها، وهو ما أدى إلى فرز هذه الفئة وإخضاعها إلى نظام قانوني خاص وهو قانون الوظيفة العمومية الذي يختلف عن تنظيم علاقات العمل في القطاعات الأخرى. ومن أبرز ملامح النظام القانوني للوظيفة العمومية هو قيامه على التدخل الواسع للدولة في تنظيم علاقات العمل، حيث يتمّ ضمان الماهية القانونية للعون العمومي من قبل الدولة باعتبارها المصدر الأوحد للتشريع الذي يحكم علاقات أطراف جميع الفاعلين. فالدولة وفقا لهذا النظام تنهض بمهمة سنّ التشريع وإصدار النصوص الترتيبية والتنظيمية الإدارية. وهي كذلك تضمن إحداث وتوفير الجزء الأكبر من فرص الشغل لحاملي الشهادات العليا التي تسندها هي. بل إن الدولة تبرز في هذا الإطار بمظهر الحكم بين مختلف الفاعلين، حيث تتدخل لضبط القواعد والإجراءات وخاصة المنظمة للحياة المهنية لموظفيها. ويبرز هذا التدخل بصفة جلية في تحكّمها في سياسة الإنتدابات لفائدة المصالح الإدارية وفي تقييم آداء الأعوان وترقيتهم وتضبط المرتبات والأجور والمنح وتحدّد قانون الإطار وإعادة توزيع الأعوان وتمارس رقابة واسعة على عملية التصرّف في الأعوان العموميين (9).
- هل يوفّر الإطار المنظم للقطاع العمومي النجاعة المنشودة وجودة الآداء؟
يستمد الإطار المنظم للتصرف العمومي بشكل عام شرعيته وخصوصياته من استهدافه المصلحة العامة ومهمة خدمة المرفق العمومي وتأمينه. وهو ما يفسّر تشكيل مفهومي المصلحة العامة والمرفق العمومي المرجع الأول لهذا التصرف وحجر الزاوية لمشروعيته حتى بات رمزا من رموز الإدارة وإرساء مشروعيتها على أسس صلبة بما يضمن تماسكها الداخلي وانخراط العاملين بها (10). هذا على الرغم من أن الإطار المنظم للتصرف في القطاع العمومي قد شهد خلال السنوات الأخيرة وتبعا لأزمة الدولة الحارسة تحولات عميقة ومعارضة شديدة من قبل الكثيرين. وبلا شكّ أن هذه الأزمة قد أبرزت بوضوح قصور ونقائص هذا الأسلوب الذي لم يعد يهدد مشروعيته فحسب، بل ربما مشروعية الدولة الحديثة في حدّ ذاتها وجهازها الإداري التقليدي. وقد احتدت أزمة النموذج الكلاسيكي للإدارة العمومية الذي نهل لعقود طويلة من نظرية عالم الاجتماع الألماني Max weber التي تقوم على مبدأ "المشروعية" و"العقلانية القانونية"، وذلك حينما احتدّ التناقض بين موقف ينادي بالتدخل الأدنى للدولة وعبر التخلي عن دورها والإتجاه نحو الخوصصة من جهة ، وموقف نقيضه يدعو إلى إعطاء دور أكبر للدولة في إطار تعديل الطرق والتقنيات المتعلقة بالتصرف في الأشخاص العموميين على غرار المؤسسات الخاصة من جهة أخرى.
وسط هذا الجدل الحاد بات الإطار المنظم للتصرف العمومي يشهد انتقادات حادة، وذلك بهدف تحسين جودة هذا التصرّف وإعطاء القطاع العمومي المكونات الإقتصادية التنافسية التي يتمتع بها القطاع الخاص مما أدّى إلى إدخال تقنيات تصرّف حديثة محورها البحث الدائم عن تحسين آداء القطاع وتطوير قدراته. غير أنه رغم التغيرات الحاصلة في مجال الإدارة وشيوع القواعد الرئيسية الحديثة للتصرف ، مايزال مفهومي المصلحة العامة والمرفق العمومي المرجع الأول والعلامة الرئيسية للتصرّف العمومي وسندا لمشروعيته ويطبعان التصرف العمومي بحالة من الخصوصية سواء في المستوى العضوي أو الوظيفي.
- المرجعية الفكرية والقانونية للتجربة التونسية: أزمة إطار
لم يشذ واقع التصرف العمومي في تونس بدوره عن هذا الوضع، حيث تأثّر بطبيعة الحال بأزمة الإطار التقليدي الذي يحكم التصرف العمومي بحكم المركزية التي تهيمن عليه وثقل القواعد والإجراءات الشكلية المنظمة له. كل ذلك على الرغم من محاولات الإصلاح الإداري التي لم تتوقف حيث شهدت الإدارة العمومية منذ الاستقلال وعلى امتداد نصف قرن موجات متتالية من الإصلاحات الكبرى وأجيالا متعاقبة من برامج الإصلاح حتمتها المتغيرات الدولية والوطنية كانت أبرز محطاتها برنامج الإصلاح الهيكلي وبرنامج تأهيل الإدارة وتبسيط الإجراءات والمسالك الإدارية وضمان توازن الميزانية لوقف تصاعد عجزها وترشيد النفقات العمومية والإدارة الإلكترونية كل ذلك من أجل خلق إدارة تخدم المواطن وتكون سندا لأهداف التنمية والرفع من القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.
لئن بات هذا الإطار يشهد بعض التحولات فإنها مازالت خجولة ومشوبة بالحذر وتدور في فلك المرجعية الثقافية والفكرية التي بنيت عليها منظومة الوظيفة العمومية بشكل عام وذلك تجنبا لإنزلاقات محتملة ممّا أدّى في كثير من المواقف إلى بلورة حلول منقوصة لجملة من القضايا على غرار إحداث بعض الأصناف الجديدة من المؤسسات العمومية لم تكن مألوفة في النظم الإدارية والتي تبدو دخيلة من حيث طبيعتها القانونية على غرار المؤسسات العمومية للصحة والمؤسسات العمومية ذات الصبغة العلمية. هذا ما جعل المشهد العام للتصرّف العمومي عبارة عن لوحة ضبابية تتضمّن خليطا غير منسجم بين المكونات الأساسية للنموذج البيروقراطي التقليدي لMax weber والمكونات العصرية لأسلوب التصرف الحديث (Management) ربّما لا تكون حصيلتها متماشية مع طبيعة المرحلة وتحدياتها أو حتى ملائمة لأهداف الإدارة ونجاعتها (11).
زد على ذلك لم يوفّر هذا الشكل التنظيمي الذي أفرزته الأطر القانونية الهامش المطلوب من الحريّة للفاعلين في الهياكل الإدارية (موظف - إدارة). إنّنا انطلقنا من أنWeber يعتبر أن التنظيم نسق يتألف من عناصر ناشطة، مبرزا نمط التسيير الذي يجب أن تتبعه الإدارة والموظف على حدّ السواء حتى تكون أنظمتهم فعالة ومحققة لأهدافها، وذلك ما دفعه إلى التركيز على الجهاز البيروقراطي للتنظيم الذي يعتبره الشكل العقلاني الأكثر فعالية في عملية التسيير والمراقبة التي تمارسها الإدارة على موظفيها، بل هو النمط العقلاني في ممارسة السلطة. ولما كانت السلطة في حدّ ذاتها تجسيما للعلاقة العمودية غير المتكافئة بين الإدارة والموظف فإنها تحتاج إلى نمط عقلاني الذي هو (البيروقراطية) التي لئن كانت هي الشكل المثالي بالنسبة إلى الإدارة والمؤسسة فهي ليست سوى قيدا يراقب حرية الفاعلين (الموظف) وحركتهم ويكبلها ويحرمهم من إمكانية التصرف ومن العمل بحريّة وهو ما يسميه Max Weber القفص الحديدي للفرد (12).
إن المنظومة التونسية التي طالما نهلت من هذه المدرسة حكمت على التصرف العمومي أن يبقى أسير أطر قانونية صارمة لا محيد عنها، إنه نظام محاسبي ومالي مخصوص تحكمه مجموعة مبادئ وإجراءات محدّدة تستند بدورها على قواعد قانون الوظيفة العمومية من جهة، وقواعد المالية العمومية والمحاسبة العمومية من جهة أخرى، فضلا عن خضوع الميزانية وطرق إنفاقها إلى مبادئ وقواعد لا تقل صرامة عن القواعد المذكورة (مراقبة سابقة ولاحقة). ومن البديهي أن يولّد الطابع الشكلي لهذا النموذج البيروقراطي القائم على تطبيق القواعد غير الشخصية بطئا شديدا في عمل الهياكل الإدارية ومركزية مفرطة في القواعد والإجراءات المطبقة، بحيث تؤثر التبعية والتسلسل الإداري في حركية الهياكل الإدارية وبالتالي في أوضاع الأعوان العموميين ولا تأخذ بالقدر الكافي في الإعتبار لا إنتاجيتهم ولا مردوديتهم، أوتميّز بعضهم عن بعض في الكفاءة والآداء. وبالتأكيد يفتقد في هذا القطاع أي حراك للأعوان أو أي تداول على مواقع العمل، ولم تعد الإدارة قادرة على استقطاب الكفاءات التي تحتاجها أمام تزايد إغراءات القطاع الخاص وهجرة الكفاءات بحكم أنظمة التحفيز المعتمدة وعدم مواكبة نظام التقييم المعتمد في القطاع لمنطق التصرف الحديث فضلا عن انصراف هامش المشروعية القانونية المتوفّر إلى الإنهماك في أنواع الرقابة والإشراف على هذه الهياكل وإدارة المسار المهني للأعوان بهدف البحث عن المطابقة والملاءمة والمشروعية.
أدّت هذه الهيكلة التنظيمية إلى جعل الهياكل الإدارية بمثابة أنساق للفعل المنظم، لكنها ناجمة عن توافق هشّ ومرحلي بين مختلف إرادات الفاعلين ( إدارة - موظف ...)، الذين يعمل كل واحد منهم حسب أجندته الخاصة واستراتيجيته المختلفة ولو بصورة خفية. وبالإمكان اكتشاف هذا السلوك انطلاقا من رسم تمشّ يمكن من تشخيص التنظيم واستنباط الحلول اللازمة لمشاكله عبر استخدام منهجMichel Crosier في التحليل الإستراتيجي كما ورد في كتابه "الفاعل والنسق" والذي خصّصه أساسا لواقع الإدارة الفرنسية قبل أن يتم تعميم هذه الطريقة على بقية المؤسسات الإقتصادية الفرنسية في إطار شبكة متكاملة تمكن من قراءة الواقع وتطبيقه بصفة فورية على التحليل العميق للسلوكيات اليومية للفاعلين داخل التنظيم (13). فمن الناحية العملية نجد أن الموظف في الإدارة التونسية عادة ما يشق مساره المهني في إطار نسق تنظيمي يتفاعل خلاله الفاعلون الإجتماعيون (الإدارة ، الموظف) كل حسب استراتيجيته. لذلك سوف نفترض أن هذا المسار المهني موجه برمته، بمقتضى هذه القواعد من قبل الإدارة بموجب النصوص النافذة، وبالتالي فإن هذه القواعد والنصوص هي التي تصنع الهوية والتنشئة المهنية والاجتماعية للموظف. وتأسيسا على هذه الفرضية تطرح أسئلة فرعية كثيرة منها مدى إمكانية تطبيق القانون دون التضحية بمبادئ النجاعة لا سيما من حيث الانعكاسات على تحفيز الأعوان؟ ثمّ ألا تؤدي استراتيجية الإدارة في حرصها على تكريس مبدأ المشروعية إلى علاقة غير ديناميكية بين النص والمسار المهني للموظف؟ وباختصار هل يمكن لهذا الإطار الذي يحكم الحياة المهنية للموظف أن يترك هامشا من الحرية لتحركات الموظف أو مجالا لمنطق الكفاءة والجدارة المهنية في عملية شغل الوظائف؟
الهوامش
1) أجوبة الوزير المعتمد لدى الوزير الأول المكلف بالوظيفة العمومية والتنمية الإدارية أمام مجلس النواب أثناء مناقشة ميزانية الدولة لسنة 2008.
2) Zghal Riadh, Gestion des ressources humaines: Les bases de la gestion prévisionnelle et de la gestion stratégique.cpu, 2000
3) د. خالد قدور، "الاستشراف سبيل تونس إلى الحكم الرشيد" صحيفة العرب 22 نوفمبر 2007.
4) Crosier Michel, pour une sociologie de l'administration publique, RFSP,1956
5) Costa ( J-P): Droit et évaluation, RFAP, 1993
6) د.نور الدين العلوي،أطروحة دكتوراه حول سوسيولوجيا تشريعات الضمان الاجتماعي في تونس 2003.
7) Boukrâa Ridha, Comprendre la mondialisation, Tunis, CPU, 2005.
8) Zghal Riadh, op.cit.
9) Ben Letaïef Mustapha, L'état et les entreprises publiques en Tunisie: Les mutations de contrôle, thèse doctorat, université de Lile 1997.
10) Chevallier (J), La gestion publique à l'heure de banalisation, R.F.G, 1997.
11) Ben Letaïef Mustapha, Le cadre regissant le secteur gestion publique 1998
12) Crosier Michel et Erhard Freidberg, l'Acteur et le système, 1977
13) Weber Max, Economie et Société.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.