تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على هامش الاستشارة الوطنية حول تحديث الوظيفة العمومية: رؤية سوسيولوجية (2-3)
«الصباح» تفتح ملف تحديث الوظيفة العمومية
نشر في الصباح يوم 09 - 01 - 2008

تونس-الصباح: نشرنا في عددنا ليوم أمس الجزء الأول من الدراسة التي أجراها الباحث محمد زهير حمدي حول ملف تحديث الوظيفة العمومية. وفي ما يلي الجزء الثاني منها الذي يتناول المسار المهني للموظف العمومي وتقييم أدائه ومسائل أخرى متصلة على غرار طريقة تكوين الموظف ومنظومة التأجير والانتداب وغيرها. علما بأن كل مساهمات القراء وتعاليقهم حول هذا الملف مرحب بها لإثراء الحوار.
- المسار المهني للموظف
يمكن القول من الناحية الموضوعية أن المسار المهني هو عبارة عن طريقة لبناء المهارات الفردية والمهنية للعاملين عبر تعبئة الموارد والمعارف والقواعد المرتبطة بالأشكال التنظيمية للعمل. أما من الناحية الذاتية فهو عبارة عن عملية إعداد للحواس التي تنشّط التعلمات واستراتيجيات التكيف والتأقلم الدائم. ولا يحيل مفهوم المسار المهني للموظف في هذا الموضع إلى المعايير التي تعكس المجال العملي والمهني فقط، بل كذلك إلى التمثلات الرمزية لفكرة الوظيفة العمومية ليؤسس بالتالي مجالا للتفاعل بين إنتاج القواعد الموضوعية واستخدام المعايير الرمزية التي تكون أحيانا موضع تساؤل (14). لذلك فإن المسار المهني هو قبل كل شيء تعاقب تعيين الموظف في مراكز عمله، فهو الزمن الذي يباشر خلاله الموظف مهمة ما، ويبرز هذا التعريف نوعان من المسار المهني :
× مسار مهني ديناميكي، يمكن ترجمته من خلال ثلاثة اتجاهات للتطور:
- اتجاه عمودي ، يتجسّم في الأصناف التالية من الترقيات:
- النجاح إثر مناظرة أو امتحان مهني أو اختبار
- النجاح في مرحلة تكوين مستمر
- بالاختيار بعد الإدراج ضمن قائمة كفاءة
- الترقية الاستثنائية.
- إتجاه أفقي، يتجسّم من خلال الحراك الدوري للموظف، أي من خلال تغيير مركز العمل في نفس المستوى التسلسلي وخلال نفس المسار المهني وكذلك في الحالات التقليدية للموظف ( إلحاق - عدم مباشرة ....) ثمّ الإنتقال الجغرافي والذي يتمّ في أربعة حالات وهي ضرورة العمل ولأسباب عائلية ولأسباب اجتماعية أو لأسباب تأديبية.
- إتجاه جانبي، ويتجسّم من خلال التدرج الآلي للموظف في الدرجات على سنتين (عادة) ضمن شبكة الأجور لأعوان الوظيفة العمومية.
وإذا نقلنا مشهد المسار المهني إلى رسم بياني فإن هذا الرسم يبرز مجموع الحراك المهني للموظف تجاه الإدارة منذ انتدابه حتى مغادرة الوظيفة. ويفترض هذا الحراك وجود علاقة خصوصية بين الموظف والإدارة يعيشها ويتعامل معها من زوايا مختلفة. من هنا يمثل المسار المهني بالنسبة إلى الموظف مجموع الأنشطة التي يمارسها والتجارب التي يعيشها حسب المراكز والأدوار والخطط التي يشغلها، وكل ما يعنيه ذلك من آمال وانتظارات ترتبط بالمستقبل وبالأهداف التي يروم تحقيقها على غرار إشباع حاجياته المادية والأدبية والإستقرار الوظيفي والترقيات المهنية وشغل المناصب والمراكز الهامة. أما بالنسبة إلى الإدارة ، فإن الحراك الذي يعيشه الموظف العمومي يعني مجموع الأنشطة التي يمارسها والمسؤوليات التي يتمّ الإضطلاع بها بصفة متعاقبة من حيث الزمان من قبل فرد ما. وهي كذلك تتمثل في مجموع الإنتظارات والإستراتيجيات التي توجه أولئك الذين تفرض عليهم مسؤولية صنع القرار حول تحديد من يتحرّك ؟ متى يتحرّك؟ كيف؟ ووفق أي نسق؟(15)
على ركح مسرح الحياة الوظيفية يمارس الموظف العمومي جوهر مساره المهني. غير أن الإدارة هي التي تقرّر أغلب الحركات التي تمثل هذا المسار، وهو ما يسمى من وجهة نظرها التصرف الشمولي في المسار المهني للموظفين. فتتمّ عمليات التدرج بصفة آلية لا دخل للإدارة أو الموظف فيها. كما تستند الترقيات إلى أسس لا تعكس دائما حقيقة آداء العون. بل وتتولى الإدارة أحيانا إعداد جدول الكفاءة المهنية الذي تقوم من خلاله اللجنة الإدارية المتناصفة باختيار المترشحين الذين يستجيبون إلى شروط الترقية إلى رتبة أعلى، وهو ما يجعل من هذا النظام أداة لقيس جودة الأداء الفردي والجماعي للأعوان حتى يتسنى احتساب القدرات الفردية وترتيب المترشحين حسب الجدارة المهنية. ويتمّ كل ذلك بصفة شبه آلية ووفق شروط وضوابط تم وضعها بصفة مسبقة ليس بإمكان رئيس الإدارة الحياد عنها.
× مسار مهني ستاتيكي، وينحصر في مجرّد التدرج والأقدمية ويتسم بالطابع الفردي ويحتوي على نظامين نوعيين هما نظام قيادة المسار المهني ويستطيع بموجبه العون قيادة مساره المهني وفق نسق يرسمه وطريقة يعتمدها من جهة، وتبعا لحاجيات الإدارة من جهة أخرى. ويتمّ التحكّم في قيادة هذا المسار عبر إتمام الدراسات الجامعية تختم بالحصول على شهادة عليا أو دروس مهنية تشفع بشهادة أو القيام ببحوث وأعمال أكاديمية. أما النظام الثاني فهو ما يسمى بنظام حصيلة الكفاءة ومقتضاه أن العون يعتبر نتاجا لمعارفه وطاقاته المهنية من أجل تعزيز مواطن قوته وإصلاح نقائصه عبر التكوين الأساسي.
- الانتداب:
على خلاف أساليب التصرّف في القطاعات الأخرى ظلت الإدارة العمومية أسيرة لآلية المناظرة كطريقة للإنتداب وفي ذلك تطبيق لقاعدة كلاسيكية مستقرّة في فقه القانون الإداري تدخل في إطار ضمان المساواة بين المترشحين واعتبار المناظرة هي المدخل الأساسي للوظيفة العمومية وهي قاعدة لا يمكن الحياد عنها في القطاع العمومي بصفة عامة والوظيفة العمومية بصفة خاصة (16). صحيح أن القطاعات المذكورة لها آليات شبيهة لاختيار أفضل المرشحين للعمل لديها غير أن هذا الأسلوب لا يمكّن الإدارة دائما من انتقاء أفضل المترشحين إذ يحسن الكثير منهم الإعداد للمناظرة دون أن يكون لهم أفضل المؤهلات العلمية للخطة المعنية. كما أن الكثير منهم لن يتمكنوا من النجاح خاصة في المناظرات الداخلية نظرا للضغوطات المهنية التي يعيشونها مما يحول بينهم وبين الإعداد الجيّد لها ومن ثمّ النجاح فيها. فهي إذا لئن كانت تكرس العدل بين المتناظرين وتحافظ على مبدإ المشروعية فإنها لا تستجيب لتطلعات العون من جهة، ولا تلبي حاجيات الإدارة من جهة أخرى.
- تقييم آداء الموظف:
إنطلاقا من اعتبار الإدارة نسقا اجتماعيا يتكون من أجزاء متكاملة ومتبادلة التأثير، فإن هذا التكامل محكوم بجملة من الآليات أهمها نظام تقييم هؤلاء العاملين وما يترتب عنه من ترقيات وحوافز ونظم الرعاية الطبية والخدمات الإجتماعية بما يضمن للأعوان دخلا ثابتا ويدفعهم إلى آداء أدوارهم بثبات واطمئنان. وتستند الإدارة في عملية تقييم أعوانها على آلية تقليدية ودقيقة تعتمد على إسناد الأعداد المهنية السنوية وأعداد منحة الإنتاج. وعليه لم تترك التشريعات والتراتيب ذات الصلة لا إلى الإدارة المعنية ولا حتى وزارة الإشراف مجالا يذكر للتدخل في عملية التقييم وبالتالي في عملية الترقية ولعب دور محدّد في هذا المجال ، حيث نعلم كلنا أن الإدارة مقيدة تماما بجملة من الضوابط والشروط ، فلا يملك المدير العام مثلا السلطة القانونية لترقية أحد منظوريه خارج الضوابط الموضوعة والتي تسير بصفة آلية مما يفقده سلطة المكافأة والتحفيز وهي بالتأكيد سلطة حاسمة في توجيه طبيعة آداء العون العمومي ونجاعة الإدارة.
إن أسلوب التقييم المعتمد هنا من خلال آليتي إسناد العدد المهني والعدد المسند بعنوان منحة الإنتاج لم يعد ملائما للحكم على آداء الأعوان، إذ لا مكان للجدارة هنا بل أن الترقيات والتدرج يتمان بصفة آلية بغض النظر عن تميز هذا العون أو ذاك في الآداء ، وهو ما سوف يفرغ آلية التقييم المعتمدة من أي محتوى يؤدي إلى تحفيز الأعوان المتميزين أو معاقبة المخالفين.
- التكوين:
مازال التكوين الذي تؤمنه هياكل التكوين المختصة ( المدرسة الوطنية للإدارة - معهد المالية ....) يعاني من رتابة مقيتة لم تخرجه من دائرة الإختصاصات والمواد التقليدية ( قانون إداري - مالية - محاسبة ...) التي هيمنت لعقود على المشهد التكويني دون الإنفتاح على بعض المعارف والعلوم الأخرى والتي باتت ضرورية لتكوين الموظف وفق مناهج غير تلك التي تلقاها في الجامعة وبالتالي إعداده الجيد للحياة المهنية وجعله قادرا على التكيف مع متطلبات المفهوم الحديث للوظيفة العمومية والنقلة المزمع إحداثها في القطاع بل طرفا فاعلا في إحداثها.
لذلك فإن تدريس العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الإجتماع وبقية الإختصاصات الأخرى كالدراسات الإستراتيجية والإستشراف واللغات الأجنبية بات ضرورة ملحة، ولا بدّ أن تأخذ حيّزا مهما في برامج المدارس التكوينية أثناء مراجعتها في ضوء نتائج الإستشارة. هذا مع العلم أن معهد تطوير كفاءات كبار الموظفين الذي أحدث مؤخرا سوف يلعب دورا مهما في هذا الإصلاح باعتبار أن من مهامه تدريب كبار الموظفين على التخطيط والإستشراف .
- التأجير:
إن هذه المنظومة هي الأكثر تجسيدا لأزمة الوظيفة العمومية وأزمة التصرّف العمومي بشكل عام، إذ تخرج منظومة تأجير الموظف عن نطاق الإدارة المشغّلة وسلطاتها. ويبرز فيها دور الدولة بشكل واسع وحاسم فهي التي تتولى ضبط مستوى التأجير وحجم الإمتيازات المالية والعينية الأخرى المسندة للأعوان ويمتد نفوذها إلى نظام التأجير لمختلف العاملين. إن جميع مكونات الأجر مضبوطة بشكل مفصّل ومسبّق بمقتضى نصوص مستمدة من أحكام قانون الوظيفة العمومية ، ومجلة المحاسبة العمومية وبقية النصوص الأخرى وفق شبكة أجور تطبق على الجميع. وتخضع الزيادات العامة في الأجور إلى نظام تصرّف مشترك حقيقي بل إلى تفويض معكوس لسلطات الإدارة المشغلة أو المنشأة العمومية إلى الحكومة على غرار كل هياكل القطاع العمومي، وتتوقف على الإجراءات ذات الصبغة العامة المتخذة على المستوى الوطني حيث تمرّ هذه الزيادات بسلسلة معقدة من الإجراءات تبدأ بالتفاوض القطاعي ثمّ المركزي ثم التوقيع على اتفاق شامل للقطاع ثم إصدار أوامر ترتيبية لصرف الزيادات. لقد أدّت هذه الإجراءات إلى تجريد الإدارة المشغلة من أهمّ الآليات التي يمكن استخدامها للتحفيز ومكافأة الأعوان المتميزين وانتزعت منها بعض الأوراق التي يمكن توظيفها للنهوض بتحسين آداء أعوانها وجودة خدماتها هي لمصلحة منظوريها. وهو ما جعل كثير من الكفاءات تغادر الوظيفة إلى القطاع الخاص وأدى إلى عزوف بعض الكفاءات الشابة عن الإلتحاق بالوظيفة العمومية. وهكذا تبقى مشكلة التأجير من أعقد قضايا الوظيفة العمومية باعتبارها مرتبطة بقضايا لا تقل عنها أهمية وهي الحفاظ على التوازنات العامة لميزانية الدولة وإمكانيات البلاد الإقتصادية والمالية.
أ - التأديب:
لا يخلو نظام التأديب في هذا القطاع بدوره من هنّات إذ أنّ أغلب الصلوحيات التأديبية مركّزة بيد الإدارة المركزية ولا سلطة تأديبية تذكر بيد الرئيس المباشر على أعوانه خاصة في توقيع بعض العقوبات ، فضلا عن الطابع الشكلي للإجراءات المعتمدة في هذا الباب. وكذلك تعزيز النظام التأديبي لأعوان الدولة بقدر كبير من الحماية على عكس النظام المنطبق على بقية العاملين في قطاعات أخرى. وفي المقابل يخضع الموظف إلى التزامات خاصة كالحياد من اجل الحفاظ على مبدأ النزاهة والمشروعية والتحفظ من أجل الإلتزام بالسر المهني فيجد نفسه تحت طائلة جملة من التحجيرات من أجل ضمان استمرارية المرفق العمومي.
إنها عوامل مجتمعة تؤثر بلا شكّ في آداء الأعوان العموميين بشكل أو بآخر.
لقد فاقمت هذه الإشكاليات من سلبيات الطابع الشكلي البيروقراطي للإطار المنظم للتصرف في الموارد البشرية، تعمّّق بمركزية عمل الهياكل الإدارية وانهماك صانعي القرار والمسيرين في الحرص على احترام مبدأ التسلسل الإداري، ممّا أدّى إلى حالة من التراجع في آداء الأعوان وغياب الحراك في أوساط الفاعلين والهياكل الإدارية وتقليص روح المبادرة الفردية لديهم، وذلك من شأنه أن يؤدي إلى غياب عوامل التشجيع والتحفيز لهؤلاء الأعوان. وقد ضاعف من هذا الركود منظومة التأجير وأسلوب الترقيات الذين لا يعطون دورا كبيرا للمجهود الشخصي للعون العمومي أو لجدارته وطاقات الخلق والإبداع لديه أو حتى اعتبار عنصري الإنتاجية والمردودية التي تختلف من عون إلى آخر(17). بل أن هذا التركيز المفرط أدى إلى إضعاف حركية التنظيم في نهاية المطاف وأثّر في آدائه وأدخل حالة من التعقيد على المسالك والإجراءات قد تربك بعض المسيرين وبالتأكيد سوف يؤثر ذلك على مركز الموظف وخلق هوية مهنية نمطية له لا تعطي شخصية مميزة لعون على آخر تبعا لطريقة آدائه وقدراته المهنية، وذلك انطلاقا من الدور الموحّد الذي أوكلته لهم القواعد القانونية من خلال التعامل مع الجميع على قدم المساواة .
- قصّة موظف:
يلج الموظف مسرح الحياة المهنية، فيجد نفسه محكوم بإطار قانوني معدّ مسبقا يضعه في وضعية قانونية وترتيبية تضمن المساواة في الدخول لعالم الوظيفة العمومية مجسّما في المناظرة كأسلوب أساسي للإنتداب. ويتسم نظام مساره المهني بمنطق المساواة في طرق التدرج والترقية بالإستناد على الأقدمية في الرتبة قبل كل شيء مستبعدا مبدأ الجدارة والتميّز، وينطبق ذلك أيضا على نظام التأجير المبني على أساس شبكة الأجور المعدّة بصفة مسبقة لا فرق فيها بين موظف وآخر إلا بالأقدمية.
ولتقريب هذه الصورة من ذهن القارئ، اقترح كل من Arthur, pringle et inkson في مؤلف جماعي لهم the enactement of career, New York, sage, 1999 ، استعارة بعض المفاهيم من ميدان المسرح وسحبها على عالم الوظيفة العمومية، مفرّقين هنا بين "السيناريو" أو النص و"القصة". فالسيناريو في نظرهم هو المقتضيات والقواعد التنظيمية النافذة أي قواعد قانون الوظيفة العمومية إذ لا يتعلق الأمر بالإحتكام إلى مسالك الإرتقاء في سلم الوظيفة من عدمه والمحدّد بصفة مسبقة. أما بالنسبة لمصطلح "القصة" فيحيلنا هنا إلى المشيئة الفردية التي تفتح المجال أمام صدف الحياة المهنية على مصراعيها حتى ولو كانت هذه الصدف غير عفوية ومتماهية مع البنى والرموز التي يفرزها مسار تنفيذ النصوص والتي تطبع تماهي الفاعلين مع النص وتوجه استراتيجياتهم.
نخلص إلى أن المسار المهني للعون العمومي عبارة عن دور موكول له في عمل مسرحي يردّد خلاله نص مسرحي. فالعون ينفّذ قواعد مقننة واجبة الإحترام تمت تنشئته منذ البداية على أساسها، فبلورت هويته المهنية بطريقتها وبالصورة التي تريد، والأهم هنا أن الممثل لا يتمتع بهامش كبير للإرتجال أوالخروج عن النص المسرحي تماما كما حكمت النصوص القانونية على الموظف بالامتثال لمقتضياتها بكلّ دقّة وحزم .
إن هذه الصورة النمطية جعلت من منظومة الوظيفة العمومية عبارة عن حق من حقوق "المواطنة" بالنسبة للعون العمومي وأقرب إلى نظام التأمينات الإجتماعية منها إلى علاقات نظام العمل وثقافته. هذا الحق، في نظر الموظف، يكفل له استقراره الإجتماعي والوظيفي ويضمن له أمنه الإجتماعي كمواطن بتمكينه من موطن شغل قار والإستمرار فيه " مدى الحياة " والحصول على دخل قار وربما مركز اجتماعي مرموق. لعليّ أجازف حين أقول أن هذا الفكر الذي بات يحكم الوظيفة العمومية في جلّ الأنظمة في العالم، لم يعد مبدأ قانونيا أو إداريا أو قرارا سياسيا ربّما، بل تحوّل في كثير من المواقف إلى شعور اجتماعي حمائي وإنساني لدى الأعوان العموميين، وربّما حالة من التوافق الاجتماعي العام في قطاع الوظيفة العمومية يوجه قرارات الإدارة وتهتدي به أحكام القضاء الإداري أحيانا عند نشأة النزاعات بين الإدارة والموظف، ويحدّد حركة الطرف النقابي ومواقفه. وخير دليل على هذه الحصيلة إحاطة النظام التأديبي للموظفين بعبق حمائي وإنساني لا نظير له في القطاعات والتشريعات الأخرى لا سيما قانون الشغل. وهذا ما يفسّر عزوف الموظف، هو الذي نشأ على هذا الأساس، من المغامرة بالخروج من الوظيفة العمومية للقطاع الخاص أو الإنتصاب للحساب الخاص أو أي شكل من أشكال إعادة تشكيل المسار المهني رغم الحوافز والمنافع التي لا تتوفّر له بالوظيفة.
- أي كلفة؟
أسهم هذا النظام في خلق شريحة من الموظفين يتعاملون مع وظيفتهم باعتبارها موقعا يوفّر لهم جملة من الحقوق والإمتيازات، وبالتالي قد لا يعيرون الإهتمام الكافي للمرفق العمومي الذي يعملون ضمنه وما يتطلبه من اجتهاد وتجديد. حتى ولئن طوّر العون آداءه فإن ذلك عادة ما يكون في حدود سعيه لتأمين لقمة عيشه والحصول على المرتب وغيره من المنافع وبأقلّ جهد ممكن وبالقدر الذي يضمن ذلك الإستمرار في الوظيفة (18). هذا ما يفسّر حرص العون العمومي على الإستجابة إلى ما تفرضه النصوص والتراتيب القانونية بالقدر الذي يخدم مركزه القانوني والمهني وتطويره، من خلال تكريس الإجراءات القانونية والإدارية واحترامها أكثر من إنشغاله بجودة العمل وحسن سير المصالح الإدارية وهو ما حوّل التزامه بهذه القواعد غاية وليست وسيلة من حيث الظهور بمظهر الحريص على احترامها. والملاحظ أن الإدارة قد انجرّت بدورها وراء هذا النسق حيث جعلت من احترام القواعد والإجراءات القانونية هدفا لا وسيلة في عملها بحكم هيمنة هاجس تكريس المشروعية القانونية على المسيرين. لقد سوّى النص القانوني بين الجميع فأفقد الإدارة سلطة التحفيز وأحيانا سلطة الردع حينما يتعين توقيع العقاب. إن هذه "السبّورة السوداء" لواقع الإدارة العمومية على حدّ تعبير Michel Grosier والتي تأخذ الواقع بكل أبعاده كمنطلق للدراسة ربما سوف تقود الجهاز البيروقراطي المثقل بالقيود وضعف الفعالية إلى التوقف آجلا أم عاجلا، في حين كان من المفترض ابتكار إطار تصرّف قادر على الإستجابة لهذه المتطلبات ونظام قانوني متلائم مع هذا القطاع يحتوي على قدر كبير من المرونة للأعوان والمسيرين على حدّ السواء يكون أكثر جاذبية لهم ويعتمد إجراءات إدارية أكثر تبسيطا وموجه نحو نظام تصرّف لا مركزي مسؤول وناجع يكون في مصلحة طرفي المعادلة ( الإدارة - الموظف).
ما العمل؟
إن هذه الدراسة لا تهدف إلى تقديم حلول بل إنها مجرد قراءة لتشخيص الواقع وبلورة بعض الأفكار تسهم في إثراء فعاليات الاستشارة. ومع ذلك فيمكن القول أمام هذه الحصيلة غير المرضية من وجهة نظر طرفي المعادلة والناجمة عن واقع موضوعي لقطاع الوظيفة العمومية وإلى أسباب موضوعية في جوهرها كما أسلفنا، يتعين على الإدارة بلورة رؤية استراتيجية تمكنها من مواجهة التحدّيات الجديدة عبر الإنكباب على رفع الإنتاجية والجودة في المصالح الإدارية للإسهام في دفع القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني في ظرف يتسم بالإنفتاح وحدّة المنافسة الداخلية مع القطاع الخاص والخارجية مع الدول الأجنبية والشركات متعددة الجنسيات. هذا فضلا عما باتت تتكبده خزينة الدولة من كلفة باهضة جراء الإرتفاع المشط للأسعار العالمية للنفط بعد أن كسر سعر البرميل حاجز المائة دولار، والإرتفاع الجنوني لأسعار بقية المواد الأولية في العالم، وكذلك الشروع في تحرير قطاع الخدمات على المستوى الدولي وأخيرا الإرساء الفعلي لمنطقة التبادل الحرّ مع الإتحاد الأوروبي بداية من هذه السنة. وهي مؤشرات تدل جميعها على أن الأوضاع الإقتصادية العالمية القادمة لن تكون سهلة. إنها تحديات جسام تفرض على كل الفاعلين من داخل الإدارة ومن خارجها إدخال تغييرات جذرية على المفاهيم ذات الصلة والأدوات القائمة لفتح الطريق أمام تعبئة أفضل الموارد المتاحة لدينا وحسن توظيفها وخاصة البشرية منها وإخراجها من "القمقم" الذي حشرته فيه الأطر القانونية الكلاسيكية وتقاليد عفى عنها الزمن طيلة عقود. كل ذلك من أجل إحكام العلاقة بين معادلة (كلفة - نتائج) المستمدة من التحليل الإقتصادي ( كلفة - ربح) المعمول بها في القطاع الخاص.
ولهذه الأسباب فإن الأولوية في هذه المرحلة التاريخية يجب أن تعطى إلى مراجعة الإطار المنظم للتصرف العمومي بشكل عام في اتجاه تطويره وتحريره من القيود والإجراءات التي قيدته (نظريات القانون الإداري) وخاصة المنظومة القانونية للوظيفة العمومية التي لم تعد في كثير من أحكامها ملائمة للواقع الموضوعي. ومن أوكد الأولويات فإن الإدارة مدعوة في هذه المرحلة إلى الإستئناس بعقلية التصرف الحديث في القطاع الخاص وتقنياته ومناهجه، عبر إدخال جملة من القواعد والأسس العلمية الحديثة منها التصرّف الإستراتيجي الذي يعتمد على التخطيط والإستشراف المحكوم باعتبارات الأهداف في اتجاه إحلال مفهوم النجاعة محل "عقيدة" المصلحة العامة والتقييم محل الرقابة التقليدية للمشروعية وإحلال مفهوم الجودة مكان مفهوم مبدأ المشروعية القانونية. ويتعيّن استكمال هذه المنظومة بتوسيع هامش مشاركة الأعوان العموميين في هذا الإصلاح.
إن ترجمة هذا التوجه تعني في مستوى التنظيم الإداري التخلي عن قدر كبير من المركزية وكل ما تعنيه من تركيز لسلطة إتخاذ القرار، وعدم اعتبار الموظفين مجرّد أعوان للسلطة المركزية التي تمتلك وحدها سلطات تعيينهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم. وباختصار لا بدّ من إعادة النظر في مبدإ التبعية المتدرّجة والسلطة الرئاسية في التنظيم الإداري للبلاد التونسية وانعكاساته على منظومة الوظيفة العمومية، وقبل هذا وذاك إعادة النظر في كل أشكال الرقابة المسبقة على أعمال التصرّف في الأعوان التي يجمع الكثير على أنها من معوقات تطور منظومة الوظيفة العمومية.
وثالثة ينبغي أن لا تحجب عنّا هذه الإصلاحات استحالة عزل واقع القطاع عن الواقع الموضوعي الإجتماعي والسياسي والإقتصادي للبلاد. فلا جدوى من كل ما ذكرنا طالما لا يتمّ إصلاح هذا القطاع بنفس الوتيرة التي يتمّ بها الإصلاح في باقي مفاصل الحياة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية انطلاقا من مبدإ وحدة المشكلات التي يفرزها المجتمع ووحدة حلولها.
الهوامش
14) Loïc Cadin, Le marché du travail : Règles et normes de carrière, une comparaison internationale France/Nouvelle-Zelande, R.F.D.S. 1999
15) Berrazagua Slaheddine, cours de G.R.H, ISG., 2004,2005
16) Aouij Amel, Droit des services publics.
17) عبد الوهاب الجوهري، علم اجتماع الإدارة 1987.
18) محمد زهير حمدي ، رسالة ماجستير في علم اجتماع القانون.
(*) باحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.