تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على هامش الاستشارة الوطنية حول تحديث الوظيفة العمومية: رؤية سوسيولوجية (3-3)
«الصباح» تفتح ملف تحديث الوظيفة العمومية
نشر في الصباح يوم 10 - 01 - 2008

تونس-الصباح: نواصل نشر الجزء الثالث والأخير من الدراسة التي أجراها الباحث محمد زهير حمدي حول ملف تحديث الوظيفة العمومية والذي يتناول على وجه الخصوص الأسلوب المستهدف للتصرف في الوظيفة العمومية في اتجاه التفكير في صياغة إطار جديد للقطاع العمومي بوجه عام والوظيفة العمومية بوجه خاص، وإعادة النظر في وظائف الدولة وإصلاحها ومراجعة المسار المهني للموظف. علما وأننا كنا قد نشرنا تباعا الجزء الأول والثاني من الدراسة يومي أمس وأول أمس. كما نجدد ترحيبنا بمساهمات القراء وتعاليقهم حول هذا الملف.
- عود من بدء: الوظيفة العمومية في مفترق الطرق
إن الأسلوب المستهدف للتصرّف في الوظيفة العمومية يتطلب فيما يتطلب تفويضا واسع للسلطات والمسؤوليات والتخلي عن المركزية في التصرف المستمدة من المثال البيروقراطي التقليدي بكل ما يعنيه ذلك من تحوّل في منطق التسيير وطرق الرقابة الذي لا يجب أن يبقى أسيرا لاحترام التراتيب والإجراءات فقط، بقدر ما يتجه إلى مجابهة النتائج المتحصل عليها مع الأهداف المنشودة من أجل ضمان ملاءمة مستمرة وديناميكية دائمة بين الوسائل والإجراءات وبين الأعمال والأهداف، خاصة أن النموذج البيروقراطي مازال منغلقا على محيطه وعلى التحولات الجارية ومتفاعلا ببطء واحتشام مع محاولات ومبادرات الإصلاح هنا وهناك. وفي ضوء ذلك فإن الإدارة مطالبة باستقطاب أفضل الموارد البشرية القادرة على تقديم الإضافة لها وإعطاء قيمة مضافة للعمل الإداري على أن تمنحها ما يتعيّن من منافع وامتيازات، والبحث في هذا الإطار عن آليات جديدة لجذبها وتحفيزها تراعي مصلحة العون من جهة، والتوازنات المالية للميزانية على غرار اعتماد نظام تحفيز تعاقدي يفضي إلى نظام تأجير خصوصي مجزي ومحفّز لها من جهة أخرى. وحتى يتسنّى استقطاب نوعية معينة من الكفاءات الجديدة يتعيّن وضع استراتيجية واضحة المعالم وبذل مجهودات في مستوى التحفيز وعدم استبعاد الصيغ الأخرى التي تحقق الهدف المنشود كالإلحاق لدى الإدارات أو التعاقد...
ويحتم التجاوز العملي لهذه الحصيلة التفكير في صياغة إطار جديد للقطاع العمومي بشكل عام والوظيفة العمومية بشكل خاص بما يكرّس التعايش بين المنظومة القانونية التي تحكم الوظيفة العمومية مع قواعد التصرّف الحديث لكن مع تعديلها في اتجاه تقريبها إلى طرق التصرّف في القطاع الخاص، وكل ما يعنيه ذلك من إدخال التحويرات التشريعية اللازمة التي تعطي سلطات أوسع لصانعي القرار وتمكينهم من القيام بعمليات الإنتدابات تبعا لحاجيات هياكلهم الإدارية وترك حرية أكبر أمامهم للتصرف بمرونة في نظام التأجير للتمييز الإيجابي بين مختلف العاملين بالإدارة وطريقة آدائهم كأن يتصرف صاحب القرار في نسبة معينة (25%) من حجم الأجر المسند للعون على الأقل وإعطائه صلاحيات أكثر في زجر الأعوان كلما اقتضى الأمر ذلك، ومنحهم سلطات وإمتيازات أخرى أوسع للمكافأة متى تطلّب الأمر ذلك، والأهم تطوير آليات تقييم آداء الأعوان والربط بين التحفيز والجدارة والكفاءة والتوجه نحو العمل بمبدأ الحراك الدوري للأعوان على أن يكون كل ذلك تحت المراقبة المرنة للهياكل والأجهزة الرقابية المختصة، باعتبار أنه كلما ضعفت سلطات رئيس الإدارة كلما عجز عن توظيف الطاقات البشرية الكامنة بإدارته أو مؤسسته وبالتالي عجز عن قيادة هيكله الإداري إلى النجاح.
كما يتطلب هذا التوجه إعادة النظر في السياسة الحمائية المفرطة ذات الطابع الإنساني والإجتماعي التي تميّز الوظيفة العمومية (حقوق - ضمانات - وظيفة مدى الحياة...) وذلك على الرغم من عدم رضا الموظف بصفة عامة عن واقعه سواء من حيث مساره المهني أو من حيث المرتب والإمتيازات التي يحصل عليها.
- تجارب مقارنة للاستئناس بها
كان نظام العلاقات المهنية السائد "بنيوزيلندا" إلى غاية سنة 1991 يرتكز على ما يسمى بنظام "التوفيق والتحكيم" الذي نشأ منذ سنة 1894 والذي تمّ تعديله تباعا سنوات 1936 - 1973 - 1987 لكن دون إدخال تغييرات جذرية عليه. وقد هيمن هذا النظام على عالم العمل بامتياز بهذا البلد على مرّ قرن من الزمان. وهو يتميّز من حيث علاقات العمل بثلاث ملامح أساسية:
- احتكار النقابات المهنية لحقّ التفاوض المطلق مع أرباب العمل
- خضوع عقود العمل إلى مفاوضات بين النقابات وأرباب العمل على أن تكون القرارات التي تتمخض عنها هذه المفاوضات ملزمة للقطاع بأكمله.
- إجبارية الإنخراط بالنقابات منذ سنة 1935.
وفي سنة 1991 طرحت الحكومة المحافظة على البرلمان أحكام جديدة تنظم "عقود التشغيل". كما تمّ التخلّي عن إجبارية الإنخراط في النقابات وتمّ التشجيع على التنافس بين الهياكل النقابية وأدى ذلك إلى تراجع نسبة المنخرطين في النقابات من 40.8% إلى 24% بين سنوات 91 و94.
× إعادة النظر في وظائف الدولة وإصلاحها ومراجعة المسار المهني للموظف
من الطبيعي أن يأخذ إصلاح هياكل الدولة أشكال متعددة وأساليب مختلفة، وهولا يتوقف عند خصخصة المنشآت العمومية الذي ساد في عشرية الثمانينات من القرن الماضي. وعلى هذا الأساس استرجعت الدولة وظيفتها الجوهرية في ضبط السياسات والخيارات الكبرى . وتمت إحالة وظائفها الفنية والعملية إلى هياكل تسمّى وكالات مرتبطة مع الإدارات بمقتضى عقود مناولة (19). لقد جعل القانون المؤرخ في 10 جويلية 1989 المتعلق بالمالية العمومية الوزارات في هذه الدولة بمثابة "المالكين" لقطاعاتهم والمشترين للخدمات التي توفرها الأخيرة حسب خصوصية الكم والكيف والكلفة والآجال المحددة وفقا للإتفاقيات المكتوبة بين الوزير ورئيس الإدارة. وباتت تبعا لذلك متطلبات الشفافية والمسؤولية عناوين بارزة لهذه التنقيحات التي أدخلت تغييرات عميقة في التصرّف المالي العمومي وبين العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بما أن الميزانية السنوية المقترحة على البرلمان لم تعد في شكل موارد وإنما في شكل مرافق منتجة. وهكذا إذا شكّل برنامج الإصلاح المذكور خاصية منهجية منتظمة، وبطبيعة الحال فإن إصلاح هذه الهياكل الإدارية يعنى إعادة النظر في النظام القانوني لأعوان الدولة وإعادة الصياغة المغاير لسوق الشغل في العمق .
لقد أعطى القانون المؤرخ في 30 مارس 1988 المتعلق بالقطاع العمومي للمديرين بالهياكل الإدارية (Chief Exécutive) مسؤولية التصرّف في حدود المرفق الراجع إليهم بالنظر والتصرّف في الموارد البشرية الراجعة إليه بالنظر، فهو الذي يتولى عملية التشغيل وعملية التفاوض حول عقود الشغل التي تكون عادة لمدة محددة. مكّنت هذه المنهجية من إعادة النظر في فكرة الوظيفة مدى الحياة على هذا الأساس. ومن ثمّ مراجعة جوهر وفلسفة قانون الوظيفة العمومية الذي صدر منذ سنة 1912 وكذلك مركزية التصرف في الموارد البشرية وتقاليد المفاوضات الجماعية المنجرة عنه وما إلى ذلك من المفاهيم المرتبطة بهذا الموروث في الوظيفة العمومية. لقد سمح هذا الإصلاح بإزالة الحدود بين القطاع العام والقطاع الخاص وأصبحت أغلب الإجراءات المعمول بها في القطاع الخاص مطبقة كذلك في القطاع العمومي وخاصة على الأجراء وعلى مسارهم المهني وتقييم آدائهم وبالتالي على هويتهم المهنية وكل ما يعنيه ذلك من انعكاسات على الهياكل والمؤسسات الإدارية وعلى الإقتصاد الوطني للدولة.
في النهاية أدّت مختلف هذه المبادرات والإجراءات المتعلقة بمجال الوظيفة والعمل وقواعد التأجير إلى إزالة الضبابية التي كانت تخيّم على المشهد الاقتصادي والاجتماعي، حيث تقهقرت في المرحلة الأولى وضعية التشغيل قبل أن تعود إلى حالتها الممتازة، إذ بلغت نسبة البطالة سنة 1991 حوالي 11% لتنخفض إلى حدود 6.6% سنة 1995 كما تقلّصت نسبة التضخم وتراجع عجز الميزانية وارتفعت نسبة النمو، لكن هذه الأوضاع تزامنت مع أعراض أخرى :
- استقرار المستوى الحقيقي للأجور
- زيادة في ساعات العمل
- توسيع الفوارق وسلم المداخيل المالية
وانجرّ عن كل ذلك بصفة عامة ارتفاع عدد المواطنين الذين يعيشون فوق مستوى خط الفقر وبات اقتصاد هذه الدولة من الإقتصاديات الصّاعدة وهاهي نيوزيلندا اليوم تفتح أبوابها أمام هجرة الكفاءات إليها على غرار كندا وأستراليا كدليل على ما حققه اقتصادها.
لقد أصبح أسلوب إحداث الوكالات بهدف ممارسة الأنشطة الإدارية من الآليات المتبعة في عديد البلدان على غرار الإصلاحات التي أدخلت على نظام الوظيفة العمومية في إسبانيا وفي كوريا وهو أسلوب حريّ بالدراسة والإستئناس به في هذه المناسبة.
إن هذه الإصلاحات لم تؤد إلى خلق ديناميكية جديدة على انتظارات وتمثلات الحياة المهنية للموظفين فحسب، بل أنها جسّمت عملية إعادة بناء لهذه التمثلات والرموز التي تؤثر في استراتيجيات العمل والمسارات المهنية للعاملين وتلعب دورها في تحديد الصيغة الجديدة للتنشئة المهنية والإجتماعية التي صنعتها هذه الأطر.
لا توجد وصفة جاهزة للنجاح
في النهاية يطرح السؤال حول مدى وجود قواعد نموذجية وموحّدة في إدارة منظومة الوظيفة العمومية بل حتى الموارد البشرية بصفة عامة صالحة لكل زمان ومكان أو لكل الثقافات وكل المجتمعات. إنه من الصعوبة بمكان بناء مفهوم الوظيفة العمومية وخاصة الموارد البشرية فيها على مسلمات ومعطيات مضبوطة وموضوعة مسبّقا. وبالتالي لا يمكن الحديث عن طرق وأساليب جاهزة صالحة لكل زمان ومكان. فهذه القاعدة إن كانت صالحة في مؤسسة ما يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية في مؤسسة أخرى، فيتمّ التركيز في مستوى الأنشطة الإقتصادية في المؤسسات الصناعية مثلا على استقرار الأعوان والتكوين الفني المستمرّ لهم في حين تمّ التركيز في مؤسسات الدعاية والإشهار مثلا على التغيير المستمر للعاملين بها. وتنطبق هذه الآليات تماما على الدول والمجتمعات، فقواعد التسيير المتبعة في المجتمع الياباني القائمة على مبادئ حلقات الجودة (Cercles de qualités ) تختلف عن تلك القواعد المطبقة في الولايات المتحدة التي مازالت تنهل من نظرية Taylor حول تنظيم العمل والتي سادت في أغلب دول العالم.
ألم يسد الإعتقاد ولفترة طويلة بأن "التايلورية" نظرية عالمية، خاصة حينما اعتمدت حتى في الإتحاد السوفياتي خلال الفترة الستالينية، تماما كما اعتمدتها المؤسسات الأمريكية الرأسمالية؟ بيد أنه في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون هذه النظرية مجرّد أسلوب لسير التنظيم (إدارة أو مؤسسة) ارتبط بالثقافة الغربية القائمة على المنطق العلمي التجريبي. ألم تحقّق المؤسسات اليابانية نجاحات اقتصادية باهرة، وأبدعت في آدائها نتيجة تميزها عن هذا المنوال بل استطاعت أن تصدّر نجاحاتها في تقنيات إدارة الموارد البشرية نحو بقية دول العالم في الشرق والغرب. وينطبق ذلك أيضا على التجربة الكورية وكذلك الصينية. كما أن ثقافة التوافق الجرمانية مختلفة بدورها عن ثقافة التسلسل التنظيمي والسلطة والتّحكم التي تهيمن على الفكر اللاتيني (Fayol). وفي جميع الأحوال تبقى القواعد المنظمة للموارد البشرية عالمية في جوهرها من حيث تشكيلها لجزء مندمج في التنظيم لكنها تأخذ أشكالا مختلفة حسب الظروف التاريخية والثقافية للمجتمع الذي تنتمي إليه المؤسسة والإدارة بشكل عام وهي وبالتالي قواعد تعانق العالمية لأمة مّا من حيث مفهومها محكومة في نفس الوقت بالخصوصية الوطنية الثقافية والتاريخية (20). لذلك ونحن في خضم فعاليات الإستشارة يتعيّن علينا أن نضع نصب أعيننا حتمية التجاوز الإيجابي لتجربتنا السابقة المستمدة بدورها من النموذج الفرنسي الذي بات محلّ مراجعة من الفرنسيين أنفسهم وهذا يعني أيضا حتمية انفتاح الرؤية التي ستتم بلورتها، على التجارب المقارنة الناجحة وخاصة الآسيوية والأنغلوسكسونية.
أي دور لبقية الفاعلين؟
الآن وقد انطلقت فعاليات الإستشارة فإن الجميع يحدوهم الأمل في أن تسهم في خلق نقلة نوعية في تاريخ الإدارة التونسية والموظف العمومي بصفة عامة وبالتالي تحقيق النقلة الإقتصادية التي نطمح إليها. ومن أوكد مقتضيات هذه النقلة تحول الإدارة إلى جهاز لرسم السياسات والإستراتيجيات الكبرى والتخطيط والتنسيق والمتابعة وذلك بإعادة النظر في مهامها ومراجعة أساليب التسيير ومناهجه وما يتطلبه ذلك من تحديث وتجديد للإطار القانوني المنظم للنشاط الإداري والتصرف العمومي بشكل عام وما سيتبعه ذلك من مراجعة شاملة للمسار المهني للعون العمومي. إنه عمل إرادي جماعي يستند على ثقافة جديدة تقوم على مبادئ تحسين آداء الإدارة والتجديد والتسيير الناجع وضمان الجودة دون التخلّي الكامل عن المشروعية القانونية وكل ما يعنيه ذلك من انفتاح على مبادئ وقيم التصرف العلمي الحديث وما توصلت إليه الأمم الأخرى في المجال مع استكمال هذه الرؤية الإستراتيجية بإضفاء مسحة من مشاركة جميع اللاعبين الرئيسيين في المنظومة الإدارية في عملية الإدارة والتسيير، نظرا لتلازم البعدين الإقتصادي والإجتماعي على اعتبار أن المشاركة في عملية التصرّف والإدارة تؤدي إلى التزام جميع الشركاء وخلق حالة من الحراك والدينامكية للهياكل والأعوان وتحملهم المسؤولية إراديا. معنى ذلك أن يكون للهياكل المهنية دور في الإستشارة وفي تنفيذ ما ستتمخض عنه من أفكار وتجسيمها، لأن المشاركة في التصرّف سوف يؤدي إلى شعور الأعوان بأن ذلك سيساعدهم على النهوض بأوضاعهم المهنية والإعتراف بتطلعاتهم وحقوقهم.
الانتظارات من الاستشارة
بحكم اختلاف طبيعة هذه الإستشارة عن بقية الإستشارات (التشغيل - الشباب -التصدير...) وفي سياق المنهج الذي اعتمدناه، فإن فعاليات الإستشارة لا يمكنها أن تستغني عن آراء الخبراء في الميدان وخاصة أساتذة التعليم العالي المختصين في مجالات الموارد البشرية والقانون الإداري وعلم الإجتماع، كما أنها مدعوة أيضا إلى الإستئناس بالبحوث والرسائل الجامعية المنشورة في الغرض أو التي ضلت حبيسة رفوف مكتبات الجامعات. وباختصار لا يجب أن تستثني الإستشارة أي من المكونات الرئيسية للمجتمع المدني الذي ينبغي أن يكون شريكا فاعلا في تشخيص المشاكل ورسم الحلول مرورا إلى المشاركة في تنفيذ ما سيتمّ الإتفاق عليه بما في ذلك الهياكل المهنية والنقابية وذلك بالنظر لإرتباط الحركة النقابية مع الوظيفة العمومية من الناحية التاريخية في تونس وهي حقيقة لا يمكن القفز عليها. لكن في المقابل فإن الهياكل النقابية مدعوة بدورها إلى إعادة النظر في كثير من أساليب العمل والممارسات والتعامل مع مشاكل هذا القطاع بأكثر عقلانية حتى تتحول في تعاطيها مع الحالة الجديدة من خصم تقليدي للإدارة إلى شريك فاعل في عملية التسيير وكل ما يعنيه ذلك من قطع مع ثقافة المطالبة والإحتجاج فقط والفعل وردّ الفعل التي هيمنت على علاقة الإدارة بالنقابة لعقود طويلة والتي كرّست جملة من الظواهر في الإدارة والمؤسسات العمومية تعوقها في تحقيق أهدافها وبالتالي أهداف المجتمع، وهو مناخ وتقاليد أضرّت بالعون العمومي وبالإدارة العمومية على حدّ السواء. كل ذلك مع التأكيد على عدم المسّ بأي شكل من الأشكال بالمكاسب والحقوق المشروعة التي حصل عليها الأعوان. وإذا كانت الهياكل المهنية وباقي مكونات المجتمع المدني سوف يكون لها دور في الإستراتيجية التي ستفضي إليها أعمال الإستشارة فإنه من باب أولى وأحرى مساهمة أكبر قدر ممكن من هذه الأطراف في بلورة الرؤى صلب هذه الإستشارة التي نأمل أن تكون استشارة الجميع من أجل الجميع حتى لا يبقى طرف خارجها لأن ذلك سوف يلزم الجميع بالإنخراط في تنفيذ ما سيتمّ التوصّل إليه من أفكار.
- البعد الآخر
يتعيّن النظر إلى قطاع الوظيفة العمومية والموارد البشرية نظرة شمولية لذلك على الاستشارة أن تضع في اعتبارها معطى لا يقلّ أهمية عن العناصر التي تم التعرّض لها. فلئن كانت هوية تونس من الثوابت المحسومة اجتماعيا ودستوريا وتاريخيا، فإن أخذ هذا المعطى بعين الإعتبار لم يعد كافيا لوحده عند معالجة القضايا الوطنية الكبرى. صحيح إنه تربطنا بدول المغرب العربي معاهدة الإتحاد المغاربي وصحيح أيضا أن علاقاتنا مع هذه البلدان محكومة بأطر قانونية لها قيمتها التشريعية، وتؤطر هذا التعاون لجان عليا مشتركة في أعلى مستوى ولجان قطاعية ليس أقلها تلك المتعلقة بالموارد البشرية أو التنمية الإدارية.
كل ذلك مهم، لكن الأهم أننا مدعوون أكثر من أي وقت مضى إلى التعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة ببراقماتية، انطلاقا من أن اقتصاديات دول الجوار المغاربي وأسواقها بات إغراؤها لا يقاوم. إن المبادلات التجارية والتعاون بكل أشكاله مع هذه الدول أصبح مسألة مصيرية خاصة في زمن سوف يستحيل فيه على غير التكتلات الكبرى الصمود في وجه رياح العولمة العاتية. إن هذه التحديات تحتم علينا التكامل والإندماج مع هذه الدول كضرورة أكثر منها خيار أو رغبة سياسية . إن هذه العوامل سوف توفّر علينا جهود عناء الخوض في الدلالات الفكرية أو الإيديولوجية لضرورة التكامل والإندماج المغاربي والعربي. إن السيولة النقدية لدى دول الجوار المغاربي مثلا بلغت أرقاما قياسية حيث بلغ الفائض النقدي خلال سنة 2007 في ليبيا لوحدها حوالي 280 مليار دولار وهو ما يوازي أضعاف ناتجنا الداخلي الخام، في حين بلغ فائض الميزانية لدى الجزائر أكثر من 60 مليار دولار بعد أن سددت كل ديونها بصفة مسبّقة. أما إذا وسعنا دائرة التعاون إلى محيطنا القومي ككل فنرى أن التعاون في هذا الإطار أكثر حيوية بحكم بلوغ السيولة المالية لدى دول الخليج نتيجة عائداتها النفطية وحدها تريليون ونصف تريليون دولار وهو بلا شك رقم فلكي. إن هذه الطفرة المالية الهائلة لدى هذه الدول ومغريات أسواقها بسبب الصدمة النفطية الثالثة تمثل فرصة يتعين علينا عدم تفويتها والإستفادة القصوى منها في جميع المستويات وخاصة على صعيد التنمية الإدارية والموارد البشرية. كيف ذلك ؟ ذلك هو المجال الذي يمكن أن تقدّم فيه الإستشارة الإضافة المرجوة.
من ناحية أخرى، لا بدّ من تعزيز فعاليات الإستشارة بأساليب علمية مساندة تتعاون فيها هياكل الإستشارة مع أهل الإختصاص وذلك من خلال إجراء بحث ميداني لدعم الإستشارة وتثمين نتائجها. وفي هذا الإطار يستحسن اعتماد المنهج الكمي باعتباره يتيح التعامل مع أعرض قاعدة من الموظفين المبحوثين ويمكّن من جمع أكبر قدر من البيانات والمعلومات التي سوف يتمّ تحليلها وتفسيرها وتأويلها فيما بعد حتى يتسنّى لصانع القرار البناء عليها.
أمّا تقنية البحث التي نراها أكثر تلاؤما مع موضوع الإستشارة فهي الإستبيان على أن يراعي الضوابط والشروط العلمية . وحيث يستحيل إجراء مسح شامل لمجتمع البحث باعتبار ذلك عملية صعبة غير واقعية (430 ألف موظف)، نظرا لصعوبة الحصول على المعلومات والبيانات من كامل مجتمع البحث يتعين اللجوء إلى دراسة عينة مختارة من مجتمع البحث (4300 عون) أي بنسبة 1% من مجتمع البحث على أن تكون العينة موزعة على مختلف مواقع العمل والجهات ومختلف أصناف الموظفين لتكون أكثر تمثيلية. ذلك ما سوف يخمّن طبيعة المتغيرات والظروف والسّمات التي تميّز مجتمع البحث الذي انتقيت منه العيّنة.
تلك رؤية متواضعة حول موضوع ساخن أردت من خلالها إنارة السبيل أمام العامة والخاصة آملا في أن تكون فاتحة سلسلة من الإسهامات والآراء على هذا المنبر وغيره من المنابر الإعلامية المتاحة ليشكل هذا الحوار والجدل الدائر رافدا من روافد الإستشارة.
هوامش
19) Loïc Cadin, op cit.
20) Boukrâa Ridha, op.cit.
(*) باحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.