إن مسيرة الانحدار التي تردّت فيها بلادنا تعود في واقع الأمر الى حوالي عقد قبل تسلّم بن علي مقاليد الحكم. أي أنها تواصلت على امتداد أكثر من ثلاثة عقود. فقد بدأت بخرَف بورقيبة، لتتواصل وتتسارع أكثر في عهد خليفته الرئيس الجاهل. فالدكتاتوريات المتوحشة «تتميز» باختفاء الحد الأدنى من الأخلاق في المعاملات والتعامل في كافة الميادين، اذ يعطي الماسكون بالسلطة، هم قبل غيرهم، المثال السيء في هذا الاتجاه، فيصبح القانون خرقة تُمطّط وتداس، دون أي رادع، ويقسّم المواطنون الى صنفين، صنف محدود العدد له كل الحقوق و... الامتيازات أيضا، وصنف يمثل الأغلبية مسحوق، مداس، مهدد في كرامته وحريته وقوته، كما يعوّض الانتماء الى «الجهاز» كل الفضائل ويمر قبل الكفاءة بأشواط. وفي أدغال كثيفة كهذه من اللامنطق واللامعقول واللاقانون، فإن المواطن المسكين ليس أمامه من خيار سوى البحث عن الحلول الفردية المنقذة في هذه المتاهة، ولذلك فإن أحقر ما في النفوس يصعد الى السطح، وتصبح الفردية والانتهازية والتلوّن هي القيم المثلى للنجاة. ومثل هذا الواقع عشناه في أواخر عهد بورقيبة، وهو بالتحديد ما سمح لشخص جاهل عييّ، معروف بأن اهتماماته لا تخرج «حصريا» عن نطاق السهرات الماجنة الحمراء، ولا يملك الحد الأدنى من الثقة بالنفس بدليل أنه لا يستطيع حتى النظر في عيني كل من يقابله ويتحدث معه بأن يصبح رئيس دولة، وهو الذي لا يملك المقومات الدنيا وحتى تحت الدنيا إن صح التعبير لهذا المنصب. فكان أن كرّس الرجل ودعّم نفس الواقع المتردي هذا، فتركزت أكثر آفة الأنانية والانتهازية في المجتمع، أي مجمل القيم السلبية التي تعكس أحط وأرذل ما يوجد في قرارة البشر. وبعد الثورة حلمنا بأن مسيرة الاصلاح ستبدأ من هنا، أي انطلاقا من ميدان اصلاح القيم، فإذا بنا ندخل في مشاكل هامشية ما أنزل الله بها من سلطان، ستزيدنا تخلفا وانحطاطا وتقهقرا عن مسيرة التاريخ والعصر، فمن أزمة الأكفان السوداء أي هؤلاء المتوشحات بالسواد التام في لباسهن، والذي يرافقه النقاب الى زوابع الدعاة/ النجوم، مرورا بحملات التكفير التي قد تقود في يوم ما الى فتاوى التقتيل، أي الى معارك «دون كيشوتية» لن تفتح الباب إلا الى مزيد تكريس الجهل والدجل والخرافة، ولا شيء غيرها. إن التشويه الذي أحدثه بن علي في النفوس، لم يسلم منه حتى من عارضوه وناضلوا ضده، ولاقوا الويلات في سبيل ذلك، ودليلي على ذلك المشهد المثير للرثاء الذي تابعناه جميعا عند تقاسم «الترويكا» لكعكة السلطة، والصراع المحموم الذي رافق ذلك، وما أعقبه من تموقع المعارضة كمعرقل لعمل الحكومة، ومحارب لها على كل الجبهات. وهو وضع غير سليم، يتحمّل مسؤوليته الجانبان، ولا ينبئ بخير في قادم الأيام. إذ يعتبر تخليا عن أهداف الثورة الحقيقية من تطهير ومحاسبة، وسعي لتفكيك منظومات الفساد. ففي ظل مثل هذا الوضع البائس، وبعد عام واحد فحسب من الثورة، لم يكن من المستغرب والحال هذه، أن نشاهد ما يحدث حاليا من عودة لرموز العهد البائد والمتطفلين على موائده الى الساحة وبقوة وعنجهية، متصفين بشحنة من الوقاحة والرقاعة لا مثيل لها. فها قد بدأ زحفهم على مواقع عديدة، من بينها المنظمات، كاتحاد الفلاحين والمرأة والجمعيات، ك«أمهات تونس»، وعلى عديد القطاعات كالقضاء والإعلام. إن هذا الزحف سيجعل للأسف أي عملية اصلاح في نطاق تحقيق أهداف الثورة وفي أي ميدان مهمة عسيرة، إن لم تكن شبه مستحيلة. لقد حانت ساعة الكشف والمحاسبة، فمتى تفهم السلطة والمعارضة أهمية هذا الموضوع وانعكاسه على هذه الفترة المفصلية لتاريخ البلاد، التي ستقودنا إما الى بر السلامة والأمان، وإما الى إعادة توليد دكتاتورية أفظع وأتعس.