الدكتور خالد الطراولي إن من قناعاتي التي لا تتزحزح وإيماني العميق الذي لا يتحول، أن هذه الأمة لن يُكتب لها النهوض إلا بوعي وعلم ومنظومة قيم حازمة، ولن يتم هذا النهوض الحضاري دون شراكة فعلية بين الرجل والمرأة، فهذه الأمة لن تقوم على رجل واحدة، ولن تنظر بعين واحدة ولن تعمل بيد واحدة...حضارتنا في أيام عزها لم تبخس الحقوق والواجبات لكل من الرجل والمرأة سواء في مستوى المرجعية أو الممارسة، ثم انحل العقد وانفلت الميثاق ووقع الانحراف وأرادت الحضارة البقاء عرجاء على رجل واحدة فعجزت ووقع المحظور، أخرجوا المرأة من التاريخ اختيارا فخرجت كل الأمة منه اضطرارا... تونس ليست شحيحة علينا بروادها من النساء والرجال، وإن غلب الغثاء في بعض المراحل والعصور وكان سببا ونتيجة لترهل المجتمع وسقوط حضارة. المرأة التونسية لم تغب عن باب الفعل والمشاركة حتى في سنوات الغيبة الحضارية التي لا زلنا نعيش كهوفها، فمن هنا مرت رائدات من أمثال عزيزة عثمانة التي تركت لنا مستشفى لا يزال يحمل إسمها في وسط العاصمة التونسية. المرأة التونسية كانت ولا تزال موطن سباق وتنافس بين المدارس الفكرية والأحزاب السياسية، الجميع يسعى إلى طرح تصوره من خلال مرجعيته وأهدافه المعلنة والمسكوت عنها، الكل يريد كسب ودها على طريقته الخاصة وحسب منظومته. والمرأة التونسية أصبحت رقما صعبا في معادلة التغيير والإصلاح والحكم، ولذلك لم ينسحب هذا الدور في التجاذبات التي ميزت العلاقة بين السلطة والمعارضة، وكان للمرأة المنزلة الهامة سواء في فترات اللقاءات المغشوشة أو حقبات المواجهة، ودفعت في ذلك ضريبة قاسية لا تزال بعض آثارها متواصلا، ولعله لن يختفي مع الأجيال... فهي صاحبة مبادئ وتصورات وأطروحات، ومن هنا نالها ما نال الرجال حين يرفع الصمود أمام هيمنة الإقصاء والاستفراد، وهي أم السجين والمشرد والشهيد، منهن من لحقن بالسماء دون رؤية أحبتهن فمتن حزانى يشكين ظلم العباد عند رب العباد. وهي الزوجة التي فرض على بعضهن ظلما وعدوانا طلاق الزوج المرمي في السجون أو من وراء الحدود، فصبرت وعملت في الحقول والأسواق عندما غاب العون والسند... وهي البنت التي لم تر أباها سنين طوال تركها رضيعة ليخرج ويحتضن رضيعها... وهي الأخت التي رافقت مصير أخ كريم فكانت الرجل والأب والزوج...هذه بعض من بنات تونس الفاضلات اللاتي لن يُكْتَبَ تاريخ تونس ويكون صادقا إذا تناسى أو تجاهل مساهمتهن في الصمود والمقاومة في سنوات الجمر والمعاناة! امرأتنا في المشهد السياسي وخاصة في بابه المعارض ليس بالمنعدم ولا القاصر، وفاضلات كثيرات مررن من هنا، وقد استوقفتني هذه الأيام امرأة وددتُ في عديد المرات تحيتها والشدّ على يديها، فقد كنت كلما سنحت الفرصة أقرأ ما يُكتَبُ نافعا ومفيدا مهما كان صاحب القلم، غير أني أتوقف أكثر وهي حقيقة لا أخفيها، على كتابات الأخوات نظرا لعنصر القلة الملازم لهن، واعتباري لدورهن الأساسي في أي عملية للتغيير والإصلاح، وكذلك لحاجة تونس الهيكلية لهن، خاصة في هذه المراحل الصعبة التي تمر بها البلاد. زيادة على أني أعتبر المرأة عنصر تفاؤل في أي مشروع للتغيير، نظرا لما تحمله في طبيعتها من أمل ورجاء. الأخت الفاضلة هند الهاروني من صنف هذه النسوة تحاول بكل ما أوتيت من قوة ورباطة جأش وما حملت من زاد، ورغم الوضعية الصعبة التي تعيشها وأسرتها، أن تتواصل مع التاريخ وأن لا تغادر الحاضر، وأن تحمل إيمانا راسخا بمستقبل واعد. أطوار حياتها هي أطوار تاريخ تونس القريب، معاناة أسرة وملازمتها، أخ كريم بقي في السجن سنوات لم تتخل أخته الفاضلة عن مواكبة كل هذه السنوات ولو خارج السجن، حملت همه والجرأة على الدفاع عنه والشرف الكبير على حمل اسمه، وكل السعادة أنه ابن أبيها... ثم ليتواصل هذا الحضور في الشأن العام والاهتمام بمنغصات الوطن رغم القيود والموانع والتضحيات الجسيمة، بطالة جبرية ومعاناة خاصة وعامة مع صبر وصمود. أعلم أننا سنبقى مدينين لهذه المجموعة الصامدة والصابرة، لكل هذه النساء زوجة كانت أو أختا أو بنتا أو أمّا أو جدّة، واللاتي حملنا على حياء مشروع نضال ومقاومة بصمت ومعاناة، أعمار مرّت في الآلام والعذابات، كُنَّ حقيقة لا مجازا "المعذبات في الأرض". لقد أردت في هذه الكلمات العابرة رفع تحية خاصة إليهن عبر هذه الأسطر للأخت الكريمة ولأسرتها الطيبة، نموذج للمرأة التونسية الصامدة والفاعلة من أجل وطن حبيب، نراه يتجلى في كل مقال أو بيان تخطه يحمل عنوانا صادقا "تونس للجميع دون إقصاء أو تهميش والتونسي للتونسي رحمة مهما اختلفت الرؤى والأحكام". رسالة اللقاء رقم [48] نوفمبر 2010