لما حطت الطائرة الخاصة التي كان يستقلها بلحسن الطرابلسي في مطار ترودو، في مدينة مونتريال الكندية، في 20 جانفي 2011، كان في استقباله، بالإضافة إلى رجال الجمارك والهجرة والأمن، وسائل الإعلام الكندية والعالمية وكان أبناء الجالية التونسية هناك منددين ومعارضين قدومه. وكان هناك أيضا، ثلاثة رجال من نوع خاص، بعيدين عن أنظار وسائل الإعلام وأنظار أبناء الجالية المتظاهرين أمام البوابة الخارجية للمطار. انتظر العالم أكثر من 11 شهرا، حتى تظهر أخيرا أسماء هؤلاء الرجال الثلاثة، وهم: المحامي دوناك كتان وباعث عقاري يدعى إلياس نجيم وصاحب شركة أمنية خاصة يدعى كلود سارزين، وجميع هؤلاء يحملون الجنسية الكندية. ما الذي يجمع بين محام ومقاول ورجل أمن متقاعد وبلحسن الطرابلسي المطلوب للعدالة التونسية والهارب بثروة سرقها من أفواه الجياع والمحتاجين؟ وما الذي يجعلهم يقدمون له هذه الخدمات؟ الإجابة على هذين السؤالين وغيرهما، تستدعي التعرف على هؤلاء أولا.
كيف بدأت القصة؟
في 24 جانفي الماضي، اكتشفت الأجهزة الأمنية الكندية وصول حوالة بنكية بقيمة 1,389.118 دولارا أمريكيا (حوالي مليارين من المليمات)، مرسلة من البنك اللبناني-الفرنسي في بيروت، لبنان لفائدة بلحسن الطرابلسي عن طريق حساب بنكي يملكه مكتب محاماة دونالد كتان، وتفيد الحوالة أنها لغاية شراء عقار في كندا. ذكرت مصادر مطلعة، شرط عدم الإفصاح عن هويتها لأن التحقيق لا يزال جاريا في الموضوع، أن حوالات بنكية عديدة أرسلت لفائدة بلحسن الطرابلسي من دول خليجية عن طريق الحساب البنكي للمحامي كتان. من هي الجهة أو الجهات التي أرسلت تلك الأموال من بنوك في لبنان وفي دول الخليج؟ ما هو حجم الأموال المنهوبة ؟ وهل لدى الحكومة التونسية الحالية نية أو إرادة سياسية حقيقية لاستردادها؟ هذا ما سيعرفه العالم في قادم الأيام. فتحت الأجهزة القضائية الكندية تحقيقا في الغرض وفي صباح السادس من ديسمبر الماضي، اقتحم عناصر من قوات الشرطة الكندية (Gendarmerie Royale du Canada)، مكتب المحامي دونالد كتان متسلحين بأمر قضائي مستند بدوره على قانون فيدرالي (C-61) صدر في شهر مارس الماضي، لتجميد أموال وممتلكات الحكام الهاربين وأقاربهم. وحجز عناصر الشرطة وثائق وأجهزة كمبيوتر بحثا عن أدلة تثبت تورط المحامي دونالد كتان، بإعتباره محامي ووكيل أعمال بلحسن الطرابلسي في آن واحد. كما تفيد التقاير أن المحامي كتان هو من يتولى دفع أجرة سكن بلحسن الطرابلسي والتي هي خمسة آلاف دولار فقط. أما تكاليف الحماية التي تتولاها شركة سيركو، فهي لا تزال غير معروفة.
من هم هؤلاء الرجال الثلاثة؟
أفادت جهات معنية عديدة ومصادر مختلفة من ذوي الإختصاص للتعرف على هوية هؤلاء الرجال الثلاثة الذين بفضل حمايتهم استطاع المدعو بلحسن الطرابلسي الفرار إلى حد الآن من وجه العدالة التونسية والتلاعب بقوانين الهجرة واللجوء الكنديين. وبات من المؤكد أنه بفضل الغطاء القانوني والحماية الأمنية والخدمات اللوجستية لما استطاع أن يحافظ على الثروة التي نهبها من الشعب التونسي والتي هي، بحسب مصادر متطابقة، في حدود 20 مليون دولار في كندا وحدها. المحامي دونالد كتان، هو مؤسس وشريك مكتب محاماة (Péloquin Kattan)، يوجد المكتب في ضاحية ويستمونت الراقية في مدينة مونتريال الكندية. والمكتب قريب جدا من العقار الذي اشتراه صخر الماطري في شهر أفريل 2008. والمحامي دونالد كتان هو من أصول شرق أوسطية. ليس هذه هي المرة الأولى التي تقتحم فيها قوات الأمن الكندية مكتب المحامي كتان. في سنة 1993، وبناء على معلومات استخباراتية أمريكية، كشفت السلطات الكندية عن حوالة بقيمة مليون دولار أمريكي أرسلها من إسبانيا مهرب مخدرات أمريكي يدعى هيربيرتو رودريغز، تم إرسال تلك الحوالة إلى نفس الحساب البنكي للمحامي كتان، ولغاية شراء عقار وتشاء الصدف أن العقار المعني يوجد في نفس ضاحية ويستمونت أين يوجد منزل صخر الماطري ومكتب المحاماة نفسه. بعد إيقاف رودريغز وتم التحقيق مع المحامي كتان الذي ادعى حينها بجهله لمصدر تلك الأموال التي استلمها. كان كلود سارزين يعمل سابقا كعضو في الهيئة الانضباطية لقوات الشرطة في مونتريال. وهو خبير في الاستطلاع والإختراق. بعد خروجه من قسم الشرطة، أسس شركة أمنية خاصة اسمها سيركو للتحقيق والحماية (SIRCO Investigation and Protection)، ومقرها مونتريال بمقاطعة كيباك، أين يسكن بلحسن الطرابلسي. تنتشر الشركات الأمنية الخاصة في الولاياتالمتحدةوكندا التي توفر الحراسة لمشاهيرالفنانين والرياضيين ورجال الأعمال، أشهرها شركتي «بلاك ووتر» و «دين كورب». باءت محاولات الإتصال بشركة سيركو بالفشل وذلك للاستفسار عن طبيعة وكلفة الخدمات التي تقدمها الشركة لبلحسن الطرابلسي ولم يمكن تلقي أي رد إلى حد كتابة هذه السطور. أما إلياس نُجيم، اللبناني الأصل، وبحسب ما تشير وثائق الدعوى، فهو وبالإضافة إلى كونه مقاولا وباعثا عقاريا. سبق له أن كانوربما لازال سكرتيرا عاما للشركة القابضة التي أسسها بلحسن الطرابلسي في مونتريال، كندا سنة 2000، واسمها (.Gestion Tucan Inc)، ومقرها هو نفس مكتب المحامي كتان. وبالبحث عن هوية السيد إلياس نجيم، لم يمكن التأكد بصفة قطعية من هويته الحقيقية، نظرا لوجود أكثر من شخص بنفس الإسم، من بينهم ضابط استخبارات كان يعمل مع جيش أنطوان لحد واسمه الحركي أبو طوني. ويشار إلى أن عناصر قوات أنطوان لحد لجأوا بعد سنة 2000، إلى دولة شرق أوسطية ومنها هاجروا إلى كندا.
موقف الحكومة الكندية
وعند طرح بعض الأسئلة على السيد كلود روشون، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الكندية، حول العلاقة بين البلدين وحول ما كانت الحكومة الكندية تعتزم فعلا تسليم بلحسن الطرابلسي. وصف العلاقة كالآتي:» أقامت كندا علاقات دبلوماسية مع تونس سنة 1957، وفتحت سفارتها سنة 1961. كان هدف السفارة الكندية في تونس الإشراف على برنامج مساعدات. وتتمحور العلاقة الآن حول التعاون السياسي والاستثمار في القطاع الخاص والعلاقات الأكاديمية والثقافية والهجرة. وفي ضوء التوجهات الديمقراطية الأخيرة في تونس، تتطلع كندا حاليا إلى تأسيس علاقة ثنائية مبنية على أسس جديدة قوامها المبادئ المشتركة والتجارة والاستثمار. البلدان فرنكفونيان وتشكل تونس مصدرا مهما للمهاجرين الجدد إلى كندا. يوجد ما بين 10 و15 ألف كندي من أصل تونسي وبصفة خاصة في مقاطعة كيباك. وتعد كندا ثاني أكبر وجهة للطلبة التونسيين حيث يقصدها سنويا حوالي 2000 طالب، خاصة في كيباك.» وحين سؤل السيد روشون حول ما إذا طرأت تغييرات على العلاقات التونسية-الكندية بعد الثورة، أجاب كما يلي:» ترحب الحكومة الكندية بالتوجه الديمقراطي في تونس ونعمل مع المجتمع الدولي لدعم الحكومة التونسية والمجتمع المدني في عملية التحول السياسي والاقتصادي. لقد أسهمت كندا بمبلغ 100 ألف دولار عن طريق المنظمة الدولية للأنظمة الإنتخابية. كما مولت كندا مهمة تقصي الحقائق في تونس لتقييم الاصلاحات السياسية والقانونية في مجالات حرية التعبير وحرية المعلومات». أما فيما يتعلق بمصير بلحسن الطرابلسي ومصير الأموال المنهوبة، كان الإبهام والغموض الشديدان هما سيدا الموقف. اكتفى السيد روشون بالقول:» تظل اتصالاتنا الرسمية سرية، وبالتالي لا يمكننا أن ننفي أو نؤكد أي طلبات قانونية نتلقاها من دول أخرى. عموما، أعلنت حكومتنا صراحة أن كندا سوف لن تكون ملاذا آمنا لعناصر النظام السابق. سنظل ملتزمين بتحقيق العدالة للشعب التونسي».