بقلم: المولدي الشاوش اذا تصفحنا قاموس لويس معلوف اليسوعي، نجد مادة ( جدل وجادل جدالا ومجادلة خاصمه- تجادلا- تخاصما ) أما مادة ( حاور حوارا ومحاورة) جاوبه وراجعه الكلام، ومن خلال هاتين المادتين ندرك أن البون شاسع بين الجدال والحوار، وإن كانت الخيوط اللغوية الجامعة بينهما متشابكة، وقد تكون متباينة، وهذا لا يظهر بوضوح إلا من خلال الحوار والجدال الذي نراه ونسمعه في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، اذ أغلب هذه الحوارات، تنحاز إلى الجدل العقيم، لا لإثراء الحوار واتساعه، ومحاولة تقريب المواقف المتباعدة، وإيجاد فسحة من التسامح، يلتقي عندها المتحاورون، للوصول بها إلى الحقيقة... ودون لجوء إلى المهاترات والتّوتّرات والضغوط النفسية التي تبتعد بالجميع عن صنع الحلول، ولا تجر إلا إلى المواجهات الضالة، مصداقا للقول المأثور : ( ما ضل قوم بعد هدي الا أوتوا الجدل ) إذ الحوار الجاد، له شروطه وأسسه ومقاصده المنحازة دائما إلى الصّلاح والإصلاح، وإلا يصبح الحوار في شكل خصومة حادة، يكتنفها الصِّراع والتعصب والتّوتر، ولذلك احتاط القرآن الكريم لهذا المحذور، فأكد على وجوب الحوار اللّين الهادئ، حتى بين المسلمين ومخالفيهم فقال : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقوله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) والغاية أن تفضي الحوارات إلى تنازلات، من هذا الطرف أو ذاك، لغاية توليد الأفكار وتعديل المواقف، وضمان قدر من التفاهم والتقارب والتسامح القائم على الإعتراف بمشروعية الآخر، وتفهّم وجهات نظر المخالفين، بعيدا عن الإقصاء والرفض، وبغير هذا تصير الحوارات ضربا من العبث والهراء ولغطا ولغوا تأباه أدبيات الحوار الفعّالة، فالحوارات الراقية، هي التي يسعى أصحابها إلى الجري وراء المصلحة العامة، والمساهمة في البناء والترميم، وإقصاء المآسي التي يعيشها الوطن الجريح اليوم، والتي عمّقت من بؤسنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي . السلبيات اليوم غمرت كل القطاعات، والفساد استشرى في كل المواقع، ونحن عن هذا غافلون أو متغافلون، بينما الواقع المرّ يحتّم علينا أن نسلّط نقدنا المسؤول لمحاربة السلبيات وبجسارة، سعيا وراء الإصلاح وإبراز الحقائق المعتمة من هذا الطرف أو ذاك، لأننا في حاجة ماسة اليوم ونحن نمر بمرحلة صعبة ودقيقة- إلى المناهج التي تجنّبنا الارتجال والأحكام الجائرة وألا نجعل منها وسيلة للتعقيد وتأزيم أحوالنا التي تشكو الضياع، فساستنا لم يعوا الديمقراطية، ولم يمتلكوا بعد قيم الحوار الجاد، وحواراتهم على الشاشات الوطنية أصبحت لا تتعدى الأيديولوجيات الضيّقة، و مثل هذا التمشي لا يخدم قضايا البلاد والعباد المتأكدة والحارقة . وصل الأمر ببعض الساسة من ذوي التجربة الهشّة، السماح لأنفسهم بتدني الحوار على شاشة التلفزة، وذلك بالحديث عن الأكل والشرب، الذي حرموا منه في المؤسسة التي ينتمون إليها بينما الشعب التونسي في الجانب الآخر يكتوي بغلاء الأسعار، ومقياس حرارته في تصاعد مستمرّ وبلادنا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها تعيش انفلاتا في مختلف الاتجاهات، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، والأضواء الحمراء تطل علينا من البورصة، والبنك المركزي، ومن عديد البنوك الخاصة والعامة بالبلاد، كلها تدق نواقيس الخطر، والشعب الكريم لا يبدي ولا يعيد وهو يشاهد سيناريوهات الخروج عن القانون على الأرض وعلى الشاشات التلفزية الوطنية والتي ما كان لنا عهد بمثلها، من سطو، واعتصامات، وقطع للطرقات، وإضرابات عن العمل، في المؤسسات الخاصة والعامة، وما يتبع ذلك من إهدار وافر للمال العام، فكل ساعة تمر دون عمل خسارة للبلاد والعباد لا تُعوّض، لكن شرائح عديدة من العمال والموظفين، والمناوئين من فلول النظام النوفمبري ممعنون في طلبات الزيادة في الأجور، دون شعور بوضع البلاد المتازم، أوالإحساس بجحافل البطالين الذين يعيشون تحت خط الفقر على طول البلاد وعرضها . هذه حال بلادنا اليوم ونحن لا نزال في خانة الجدال المُمل والمخزي الذي تنقله وسائل الإعلام المرئية، والذي سئمناه وسئمنا من النظر إلى المشاركين فيه وإلى أطروحاتهم التي أفلست وما عاد لها اهتمام من طرف الجماهير العريضة لأنهم ابتعدوا بأهداف الثورة التونسية إلى متاهات الردة والإفلاس، والشك والتشكيك في كل شيء، وباتوا يكرّسون الانغلاق، الذي يتنافى مع أدبيات الحوار والدخول بها إلى مساحات اللغو والمشاكسة بين هذا الطرف أو ذاك، بينما نحن اليوم نريد حوارا بناء صادقا وفاعلا فعّالا، ينتصر إلى المصالح العامة مهما كانت حدة الاختلاف، ذلك أن الخلاف والإختلاف ليسا دائما من العناصر السلبية كما يتبادر إلى الأذهان القاصرة، بل الإختلاف بين أصحاب العزائم الصادقة والنفوس الكبيرة نعتبره ثراء تتسع به الآفاق الفكرية النيّرة وفي كل المستويات، فحتى أسلافنا كانوا لا يستنكفون من الخلاف والإختلاف، حيث قال أبو إسحاق الشاطبي : روى ابن وهب عن القاسم بن محمد قال : أعجبني قول عمر بن عبد العزيز ( ما أحبّ أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، وإنهم أيمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سنة. ) وبقول الإمام الشافعي: ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب. )