- في كتابه «الثورة التونسية المجيدة» يسلّط المفكر العربي عزمي بشارة الضوء على الأسبابَ الجوهريّةَ التي قادت إلى الثورة في تونس، في إطار منهجية تحليلية توثيقية تابعت تطور الأحداث وأعادت تشكيل مسار الثورة، وتحولها من عملية احتجاجية إلى ثورة، ثم عملية انتقال ديمقراطي فرضت على النظام القائم، متوقفا في الوقت ذاته عند أهم محطات هذه الثورة وعناصرها بما يتسق مع منطق صيرورتها الداخلية، معتمدا على تعددية منهجية من مجالات العلوم الاجتماعية، وفي ضوء مقاربة التاريخ الحي أو المباشر وما تمثله الثورة من فتح لبداية عصر عربي جديد وإن لم تتضح معالمه النهائية بعد. إن الإضافة الرئيسية لكتاب الثورة التونسية في المكتبة العربية تتجلى في كونه قد قدم في الفصل الأول من الكتاب ما يمكن اعتباره مادة مكثفة لبناء نظرية عن الثورة في الوطن العربي، ليس بالتركيز على الحالة التونسية وإنما بوضعها في سياق تعارض وتناظر مع حالات ثورية في التاريخ الحديث أو مع ثورات مصر وليبيا وسورية واستكشاف العناصر المسببة للثورة في خصوصيتها التونسية والعربية، ومصير الثورات وأسس النجاح أو الفشل، وتبيان الشروط الاجتماعية والاقتصادية لنشوب الثورات، وتحليل خصائص النظام السياسي العربي وظاهرة الجمهوريات الوراثية السالبة للحريات العامة والمزاوجة بين السلطة والمال. كما تبرز أهمية الكتاب الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في جانفي 2012 من أن مؤلفه الدكتور عزمي بشارة -الذي عُرف بتحليله العميق للثّورات العربيّة وتقديم الإمدادات الفكريّة اللازمة لها- قد أرسي عددا من الشواهد التي تنذر باقتراب اندلاع الثورة التونسية وزوال نظام زين العابدين، نحو ما تحقق بالفعل، منها زيادة معدلات البطالة بشكل عام ما أدى إلى توليد حركات احتجاجية ناقمة على الفقر والفساد والمحسوبية في الدولة، حيث أن ثورة تونس بدأت بانتفاضات خبز محلية، تكررت عدة مرات في الأعوام الخمسة التي سبقت الثورة، وذلك في وسط البلاد وجنوبها الداخليين، والطرفيين بالنسبة إلى الساحل (المركز) الذي يحظى بثروة وتنمية واهتمام أكبر، ولكن الانتفاضة الأخيرة دامت زمنا يكفي كي تنضم إليها المدن والجهات (الأقاليم) التونسية الأخرى، واندماج فئة رجال الأعمال بمنظومة الجهاز الاستبدادي، وظهور جيل جديد من أبناء المسؤولين العسكريين والأمنيين الذين اتجهوا نحو الاستثمارات، ولجأوا إلى طريقة عيش مُترفة، وإلى الاستهلاك المبتَذَل كسلوك استعراضي. وكان ذلك كله محاولة لإعطاء صورة غير حقيقية عن الواقع التونسي تخفي الجرائم المرتكَبَة في أقبية التحقيق والتعذيب وإظهار صورة الدولة المترفة بجيش من المثقفين والكتاب والفنانين وروّاد الصالونات الثقافيّة المكرّسة لهذه الغاية. هذا كله شكّل مادة مشتعلة تسعّر نار الغضب. ثورة الأطراف المهمشة يعود الكاتب في هذا الكتاب المكون من (496 صفحة بما فيها الوثائق والفهرس) وهو من الحجم المتوسط، إلى ما قبل الثورة التونسيّة، ويرصد تاريخ الانتفاضات، ويشرح خريطة الأحزاب في تونس عشيّة نشوب الثورة. ثم يعرض تفاصيل الوقائع في يوميّات الانتفاضة، وكيف تطورت الأحداث تدريجيًّا حتى لم يبقَ أمام زين العابدين بن علي غير الهرب. ويقول بشارة إن الفضل في الثورة يعود إلى عناد وبسالة أهالي ولاية سيدي بوزيد والولايات الطرفية الأخرى التي انضمت إليها، وناشطيها السياسيين الذين اختلط لديهم المطلب الاجتماعي بالغضب والدفاع عن الكرامة التي جسّدها حرق شابّ لنفسه رافضا تقبّل العجز في مواجهة الإذلال. ويرى بشارة أن حرق الذات هو صرخة قصوى، ذهب فيها فرد يشعر بالظلم والعجز أمام الانسداد إلى أقصى ما يمكنه الصّراخ. كانت البداية إذن انتفاضة الخبز والكرامة، وليس الخبز وحده. هذا المركّب من رفض الحرمان ورفض الذل هو الذي يؤدّي إلى العناد في التعيير عن الغضب. ويخلص بشارة إلى نتيجة مفادها بأن ثورة تونس إلى حد بعيد كانت ثورة الأطراف المهمشة ضد المركز السياسي والاقتصادي. وسوف تظل بنية الثورة هذه تحكم مسار السياسة التونسية لمرحلة طويلة. هروب بن علي وانتصار الثورة يقول عزمي بشارة إنه بهروب بن علي الذي شكّل علامة الطريق الرئيسة على انتصار الثورة نوع من عزلة الزعيم الفردية في النهاية أمام المجتمع حين تتراص قواه. لقد استبدلت هذه اللحظة يأس الفرد العاجز، « اللا-مواطن»، محمد البوعزيزي، الذي أحرق عجزه عن فعل شيء أمام النظام في بداية الثورة، بعجز الزعيم الفرد زين العابدين بن علي الذي كان مثل كلّ زعيم سلطوي حي ما قبل شهر من هروبه « المواطن الوحيد» في الدولة. لقد استُبدل عجز البوعزيزي بهرب الزعيم «كلّي القدرة» من مصيره المحتوم، حتى تحوّل الهرب ذاته إلى مصيره المأساوي في نهاية الملحمة الثورية التونسية. درس تاريخي أما الدرس التاريخي الذي يستخلصه الكاتب في خضم الثورات العربيّة المندلعة اليوم؛ فيقدمه في صيغة اقتراح للمجتمعات متعددة الهويّات، والتي تتضامن بعض هويّاتها مع النظام القائم (مثل حالة سوريّة والعراق)؛ فيقترح أن يتم الإصلاح بالتدريج، وأن يجري انتقال السلطة سلميًّا، والأفضل أن يكون الانتقال بمشاركة النظام القائم خوفًا من أن يشُق أي تحرك ثوري المجتمع. لكنّ الكاتب يتساءل: ما العمل إذا ما رفض النظام نفسُهُ الإصلاح، وأصرَّ على تأجيج سياسة الهويّات كوسيلة لتعبئة أنصاره، هل يمكن لتغيير النظام بالقوة في بعض الحالات أن يتحول إلى تفكيك الكيان السياسي؟ ويحيل الكاتب في سياق الإجابة عن هذا التساؤل الأمر إلى الديمقراطيين العرب، ويعرض عليهم خيار السعي إلى الديمقراطيّة على أساس المواطنة المتساوية، وتجنُّب صراع الهويات؛ ذاك الذي يؤدي بالضرورة إلى التحول نحو الصراع ضد جماعات متماهية مع النظام. ويرى أن الثورة الديمقراطيّة تعني، أولًا وأخيرًا، ممارسة الشعب لسيادته باعتباره شعبًا موحَّدًا، وأي ثورة تجزّئ الشعب إلى هويّات جزئيّة ليست ثورة ديمقراطيّة. وعلى الرغم من أن كتاب «الثورة التونسية المجيدة» جاء والاحداث تتسارع وتتواتر في المشهد التونسي، إلا أن أهميته تبرز كونه يقدم عبر التحليل والمقارنة عونا في تشخيص أحداث أخرى جارية أو يحتمل أن تجري في مرحلة التغيرات الاجتماعية الكبرى التي يشهدها الوطن العربي والتي يمكن وصفها مبدئيا بمرحلة ثورات المواطنة أو « ثورات المواطنين» تمييزا لها عن « الثورات الانقلابية» في العقود السابقة. ويبقى صدور هذا الكتاب وبعد مرور العام الأول على الثورة يشكل مجهودا علميا، يستحق القراءة والاهتمام، ويقدر للكاتب هذا المجهود الكبير الذي بذله لإخراجه للقارئ العربي ولتوضيح الكثير من النقاط التي كانت غامضة حول ارهاصات الثورة في تونس، وإلقاء مزيد من الضوء عليها، ومعالجتها بحكمة وموضوعية في ستة فصول، تناول الفصل الأول العربي والتونسي في الثورة التونسية، الفصل الثاني ما قبل الثورة، وتناول الفصل الرابع الخريطة الحزبية في تونس عند نشوب الثورة، والفصل الخامس عن يوميات الثورة التونسية والفصل الاخير هو رصد للمواقف الدولية من الثورة التونسية ومن ثم الخاتمة. وعليه، يشكل الكتاب منظومة متكاملة عن الثورة التونسية وستكون مرجعاً مهماً لكل الباحثين والمهتمين وصناع القرار، وإضافة نوعية لمكتبات الجامعات ومراكز الأبحاث وطلبة العلم والقارئ العادي في فترة تكثر فيها الأسئلة ويزداد فيها الاهتمام الشعبي بالسياسة والقضايا العامة. وفي النهاية نختم بأجمل ما قاله عزمي بشارة في كتابه الثورة التونسية المجيدة: « وتبقى تونس حالة متطورة وناضجة كما قلنا، ويكاد يكون مكتمل النمو. إنها لوحة تمايزت فيها الألوان، ولا تكتفي بالأسود والأبيض. ففيها من التيارات العلمانية درجات وكذلك درجات من التيارات القومية واليسارية والدينية وغيرها. والقوى التي يقف أحدها من الآخر موقف النفي الكامل كخير وشر هي قوى صغيرة وهامشية...وسوف يتاح للديمقراطيين في بقية البلدان العربية أن يتعلموا منها الكثير. والتواضع في هذا المجال مطلوب، لأنه لم يسبق أن خاضت أي دولة عربية تجربة التحول الديمقراطي حتى الآن». ٪ باحث مساعد بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات