- قد يكون من الإجحاف الحكم على تاريخنا المعاصر بأنه تاريخ الصراع بين الوهم والواقع؛ وهم الحرية وواقع الاستبداد، فالمرء لا يملك إلا أن يقف حائرا أمام هذا الاستعصاء الذي يواجه اندراج مفهوم الحرية في منظومتنا القيمية والسلوكية، لدرجة أن البعض منا أصبح يتحدث عن عوائق جينية تحول دون استنبات هذه البذرة الهجينة في تربتنا العنيدة والمكابرة. لقد كنا نعتقد، بمجرد رحيل المستعمر، أننا قد دخلنا فعلا نادي الشعوب الحرة وأن مصيرنا قد بات بأيدينا، إلا أننا سرعان ما أفقنا على الواقع المرير الذي كرسه الاستبداد بأيدي أبناء الوطن هذه المرة. وبالاعتماد على النموذج التونسي نجد أن الأحلام التي رافقت زخم الاستقلال سرعان ما تلاشت أمام سطوة دكتاتورية "المجاهد الأكبر" رغم كل ما رافقها من نوايا حسنة لا يمكنها مهما بلغت طيبتها أن تصنع شعبا حرا وفاعلا في وجوده ومصيره، وحتى "التغيير" الذي سجل في 1987 لم يكن إلا إعادة إنتاج لنفس المنظومة السلطوية مع تشديد أكبر للقبضة الأمنية الباطشة. لذلك لم يكن بالإمكان حينها الحديث عن خيبة أمل باعتبار أن الهوامش المتاحة كانت منذ البداية أضيق من الانتظارات والآمال. غير أن خيبة الأمل الحقيقية تأتي اليوم بعد الثورة وبعد كل الآفاق التي شرعتها أمام الجميع نخبا وجماهير. إذ لا يختلف اليوم اثنان في أن هناك مناخا قائما معاديا للحرية هو بصدد الاتساع بشكل حثيث، والأخطر أنه يحاول البحث له عن مرجعية تبريرية مفترضة داخل الحقل الديني، ما يجعل آثاره السلبية لا تقتصر فقط على شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة وإنما تمتد لتشمل منظومة القيم والرموز التي تشكل الموروث المشترك للمجتمع. بمعنى أن هذا التوجه هو بصدد محاولة التأسيس ل"قيم" جديدة معادية للحريات من شأنها أن تمنحه الحق في ضبط هذا المجال وفق خطوط وضوابط معينة تتسم في أغلب الأحيان بالمغالاة والتشدد، الأمر الذي سوف يؤثر بشكل مباشر في المستقبل وفي شكل الدولة والمجتمع اللذين نطمح إلى تأسيسهما وكذلك في قدرة هذه الدولة على مجابهة تحديات التنمية والعدالة الاجتماعية بأكثر ما يمكن من الأهلية والاقتدار. في مساء يوم الرابع عشر من جانفي كان الشعور العام السائد لدى المواطن العادي أن البلاد قد طوت صفحة قاتمة من الظلم والقهر والاستغلال واستقبلت صفحة أخرى جديدة سوف يكون هو محورها ومناط اهتمامها من حيث توفير كافة متطلبات العيش الكريم له وللأجيال اللاحقة، يومها لم يخطر ببال هذا المواطن المسكين أنه سوف يجد نفسه بعد أكثر من عام يخرج رافعا نفس المطالب في الكرامة والحرية والتنمية العادلة بل وهاتفا بنفس الشعارات التي كان قد رفعها بالأمس القريب في وجه دكتاتورية بن علي، إلا أن هتافه هذه المرة كان تائها وسط أصوات أخرى كانت ترتفع لا بشعارات الثورة وإنما بدعوات التكفير والتخوين والكراهية والموت...، ومن خصائص هذه المفارقة الغريبة أن الاستبداد كان في السابق ممركزا بيد سلطة دكتاتورية موحدة وغاشمة كانت تحتكر كل ممارسات القمع والاضطهاد وخنق الحريات، أما اليوم فقد أفرزت لنا الثورة واقعا مشوها وغريبا يقوم بالأساس على ما يمكن تسميته بلامركزية الاستبداد، ومن ملامحه تذرر تلك السلطة القمعية إلى سلطات أهلية بيد مجموعات وتكتلات إيديولوجية وحزبية أخذت على عاتقها إعادة ترتيب المشهد العام بالبلاد وفق حسابات ورؤى معينة. واللافت هنا أن هذا التوجه نحو إنتاج نفس آليات الدكتاتورية كان يتم بالتوازي مع المسار الطبيعي المعلن لعملية الانتقال الديمقراطي، ما يفرض علينا التساؤل بجدية هنا عن مدى صدقية هذا المسار وجدواه، خاصة أن بعض القوى السياسية تجاوزت مجرد ازدواجية الخطاب لتصل إلى حالة مستفحلة من ازدواجية الشخصية، فمن جهة نجد لها وجها سياسيا مدنيا يعتمد في جانب كبير منه على الممارسة السياسية الراقية التي تقوم على احترام الرأي المخالف والبحث عن الحوار والتوافق في إطار القواعد المشتركة للعبة الديمقراطية، وفي المقابل نجد لها وجها آخر مظلما لا علاقة له بالأول ويعتمد بالأساس على كافة أساليب الإقصاء والقمع والتشويه والتحريض، وفي هذا المستوى يمكن الحديث عن غرف عمليات سوداء تتولى جميع تلك المهمات بكثير من التنسيق والبرمجة والتخطيط الممنهج سواء في تجنيد الفرق الافتراضية التي تتكفل بحملات التشويه وهتك الأعراض على شبكة الفيسبوك أو في استخدام الميليشيات لقمع المعارضين وملاحقتهم في كافة أنحاء البلاد لحرمانهم من الاتصال بالجماهير وإبلاغ أصواتهم، حتى ولو استدعى ذلك اللجوء إلى استعمال القوة والعنف المادي، ولست هنا في حاجة إلى سرد الحالات التي تم فيها خلال الفترة الماضية استهداف مختلف الأنشطة السياسية والثقافية التي تحمل طرحا مغايرا لذلك الذي تبشر به السلطة. في السابق كان النشطاء السياسيون والحقوقيون، مع كل نشاط ينوون القيام به، كانوا يجدون تشكيلات البوليس السياسي وميليشيات الحزب الحاكم السابق بانتظارهم لإفشال تلك الأنشطة بالهرسلة والقمع، واليوم يجدون بانتظارهم ميليشيات الحزب الحاكم الجديد التي أخذت على عاتقها القيام بنفس أدوار الهرسلة تلك لكن مع قدر أكبر من الشراسة والحقد وكذلك مع قدرة أكبر على التنسيق وعلى التحرك في مجموعات منظمة تحت لافتة ما يسمى بمجالس حماية الثورة التي تحولت إلى أذرع حزبية ذات طابع ميليشياوي خارج أي إطار قانوني مهمتها ممارسة القمع بالمناولة بغرض تمرير سياسات الحكومة بالقوة. وهذه الحملات العنيفة والممنهجة لا يمكن تفسيرها إلا بمحاولة إعادة تكريس الرقابة الذاتية في نفوس السياسيين والمثقفين والمبدعين حتى يفكروا ألف مرة قبل أن يمارسوا حقهم في النشاط والتعبير والإبداع وذلك تمهيدا لإفراغ المجال العمومي من هذه النخب التنويرية والطليعية حتى يتسنى في الأخير القيام بإعادة تشكيل ذلك المجال وفق الرؤية الإيديولوجية للحكام الجدد. وهنا لا فائدة من التأكيد على أن هذه المحاولات ليس لها أي حظ في النجاح، لأن الإنجاز الوحيد للثورة التونسية الذي يمكن الحديث عنه اليوم بكل ثقة هو سقوط جدار الخوف في نفوس التونسيين أمام كل أشكال القمع والترهيب، جميع المكاسب الأخرى التي يتم الحديث عنها اليوم كالديمقراطية والمساواة ودولة القانون...الخ كلها لا تزال مجرد مشاريع مبهمة وغير واضحة المعالم ومحفوفة بالمخاطر والتهديدات، المكسب الوحيد الذي غنمناه من ثورتنا هو انهيار عقدة الخوف التي لازمتنا طيلة عقود وكانت السبب الرئيسي في تحكم الطغاة برقابنا ومصائرنا. ما يعني أن أية دكتاتورية قادمة سوف لن تعمر طويلا ولن يتعدى عمرها الافتراضي عمر النباتات البرية الشوكية التي سرعان ما تصفر وتذروها الرياح. باحث