رغم أن سنة تقريبا تفصلنا عن الاستحقاق الانتخابي القادم حسبما أعلن في تصريحات رسمية غير أن الانتخابات لا تبدو بعيدة عن ذهن الطبقة السياسية منذ انعقاد أول جلسة رسمية للمجلس التأسيسي فكل طرف سياسي يستبسل في الدفاع عن موقعه ويجاهد لتلميع صورته لدى الرأي العام بل قد تستبدّ رغبة السلطة والحكم ببعضهم لتثير فيه نعرة المواجهة وافتعال الصراعات مع عدّة أطراف إعلامية وعمالية في محاولة لضمان ولاء هذه القطاعات بالنظر لوزنها الاجتماعي وقدرتها على التأثير في الرأي العام. وبعد انتخابات أكتوبر الفارطة وقع الخيار على حكومة سياسية لقيادة البلاد في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة.. ورغم أن هذه الخطوة كانت محفوفة بالمخاطر فإن ائتلاف الترويكا الحاكم المكوّن من أحزاب نجحت في الانتخابات الأخيرة وحاولت التآلف فيما بينها رغم عدم تجانسها الفكري والإيديولوجي ورغم العراقيل والمطبّات وتأزّم الأوضاع الداخلية للبلاد على أكثر من مستوى فإن ال «ترويكا » تمضي في مسار الشرعية وتتمسّك بأنها قادرة على النجاح متى توفرت الظروف المواتية لذلك وهي قادرة على كسب رهانات المرحلة.. هل يقضي التصدع على أحلام حليفيْ النهضة ؟ وإذا كان الفريق الحكومي يبدو متجانسا رغم الاختلافات المرجعية فإن حليفي النهضة في ال «ترويكا » ونقصد حزبي التكتل والمؤتمر بدأت الانشقاقات تنخرهما.. فحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بات مهدّدا بصفة جدية بالانقسام والتشظّي ويبدو أن حرب الحقائب الوزارية التي استعرت بين قياديه إبان تشكيل حكومة ال «ترويكا » كانت القشة التي قسمت ظهر بعير المؤتمر لتعصف به التصدّعات الداخلية وينشر غسيله على أكثر من لسان.. وقد يكون مؤتمر 12 ماي القادم بمثابة جولة الحسم في الانقسام النهائي لحزب رئيس الجمهورية المؤقت بين الشق «المتمرّد» بقيادة الأستاذ عبد الرؤوف العيادي والذي أدلى بتصريحات نارية في حق وزراء المؤتمر بحكومة ال «ترويكا ».. ويرى ملاحظون أن هذا الانقسام الذي عصف بحزب المؤتمر ستكون له انعكاسات كارثية في الاستحقاق الانتخابي القادم.. فالحزب «الفقير» ماديا والغني بنضالاته التي من أجلها حظي باحترام وتعاطف الرأي العام وحصد بالتالي أصواتا انتخابية جعلته أحد «الكبار» في المشهد السياسي الحالي على وشك أن يفقد حظوته لدى الرأي العام وبالتالي فإن خوض الانتخابات القادمة لن تكون نتائجه مريحة بالشكل الذي كانت عليه في انتخابات أكتوبر الفارط.. الحليف الثاني لحركة النهضة في ال «ترويكا » ، هو حزب التكتل الذي يجاهد ليحافظ على تماسكه ووحدته لكن من فترة إلى أخرى تكون استقالة أحد الأعضاء من هذا الحزب مدوية وتترك صداها في الرأي العام على غرار استقالة خميس قسيلة واستقالة صالح شعيب منذ مدة قصيرة وإذا كانت التصدّعات تبدو أقل حدّة داخل التكتّل فإن ذلك لا يخفي حقيقة أن هذا الحزب ليس بمأمن من الانقسامات.. وحسب تسريبات من مصادر مقرّبة من قيادة هذا الحزب فإن رئيسه يبذل كل ما في وسعه لإشاعة جوّ من الوفاق داخله حتى يحافظ على التماسك إلى حين الانتخابات القادمة لأنه يريد أن يبقى لاعبا أساسيا في الساحة وأشدّ ما يخشاه أن يسحب البساط من تحت أقدام التكتل. عريضة «استعراضية».. يبقى تيار العريضة الشعبية مفاجأة انتخابات أكتوبر دون منازع.. فالعريضة تفوقت على أحزاب عريقة وغنمت عددا لا يستهان به في المجلس التأسيسي ورغم أنها اخترقت في رحاب التأسيسي من قبل قوى سياسية لعل أبرزها تلك التي تعوّل على الأموال لشراء الذمم والأصوات.. فإن بعض نواب العريضة وبتوجيه من زعيمهم المغترب في بريطانيا الهاشمي الحامدي يجاهدون بقدر استطاعتهم للثبات في المشهد بمحاولاتهم المستميتة لاستمالة الرأي العام متسلحين في ذلك بدفاعهم الشرس على الطبقات الكادحة والمنسية والفقراء الذين تقدّم العريضة نفسها بأنها صوتهم، لأنه لا صوت لهم.. لكن رغم التعاطف الذي يحظى به نواب العريضة في المناطق المحرومة فإنهم لم يستطيعوا إلى اليوم تقديم خطاب سياسي «جدّي» وموضوعي ومسؤول ويقول عنهم خصومهم أنهم سقطوا في التهريج والاستعراض على حساب الرصانة التي يجب أن يتحلى بها لزاما كل نائب في المجلس التأسيسي وكلنا يذكر وقائع الصراع المشهودة والمشاحنات المتكررة بين نواب العريضة ونواب حركة النهضة تارة ورئيس المجلس التأسيسي طورا.. مشاحنات تصل حدّ التقريع والاتهام بالشعبوية من هذا الطرف أو ذاك.. وبالتالي تبدو النتائج المفاجئة التي حققتها العريضة في انتخابات أكتوبر بعيدة المنال في الانتخابات المزمع إجراؤها في الربيع القادم.. معارضة «انقسامية» بالنسبة إلى الأحزاب التي اتخذت منذ البداية موقع المعارضة في المجلس التأسيسي كالحزب الديمقراطي التقدّمي والقطب الحداثي فإنها تحاول في كل مرة لملمة شتات القوى الديمقراطية والحداثية ورصّها في جبهة واحدة لخلق توازن سياسي يضمن لها مواقع متقدمة في صنع القرار في السنوات القادمة ولئن يبدو الحزب الديمقراطي التقدّمي الأكثر إصرارا لنيل مبتغاه الانتخابي والثأر من حركة النهضة التي سحبت البساط من تحت أقدامه في الانتخابات الفارطة فإن كل محاولاته محفوفة بفشل المسار.. فبعد اصطفافه وراء مبادرة السبسي لتجميع القوى الديمقراطية واستلهامه من الإرث البورقيبي في صورته المشعّة لاستدرار التعاطف الوجداني لبعض التونسيين، وتمكّنه من خلق حزب يضمّ الكثير من الشخصيات المستقلة والقوى السياسية فإن انسحاب ما سمّي بتيار الإصلاح في الحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة محمد الحامدي كان عثرة غير منتظرة في مسار الحزب الجديد الذي يمنّي النفس بأن يكون حجر الزاوية في المشهد السياسي القادم.. وفي انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة من تطوّرات في مسار الحزب الجمهوري أو حزب المسار الاجتماعي الديمقراطي والذي هو عبارة عن اندماج بين حركة التجديد وحزب العمل ارتأينا معرفة آراء مختلفة حزبية ومستقلة داخل المجلس التأسيسي حول أيّة أسس سنبني عليها الديمقراطية المنشودة؟ وهل أن آليات هذه الديمقراطية كمبدإ للتداول على السلطة أو خلق قوى توازن سياسي متوفرة حاليا لنتحدّث عن بداية حقيقية لخلق مسار ديمقراطي دون شبهة دكتاتورية..؟