تشهد تونس ما بعد ثورة 14 جانفي كل أنواع الاعتداءات المادية واللفظيّة على الناشطين في الحقل الثّقافي سواء كان ذلك في المسرح أو السينما أو في قطاع الفنون الجميلة وغيرها. الأسباب عادة ما تكون لها علاقة باعتبارات دينية وقراءات شخصيّة جدّا للدين الإسلامي ولعلاقته مع الفنون ومع الإبداع عموما. والملاحظ لممارسات المعتدين يقف على أن هؤلاء كأنهم يسعون لإشفاء غليلهم باستعمال كل وسائل التعنيف معتقدين اعتقادا راسخا أن المنتمين للمجال الفني كفارا وبالتالي وجبت مقاومتهم. المسألة تتفاقم مع مرور الأشهر على الثورة الشعبية بل أصبحت مزعجة ومقلقة بالنسبة للمبدعين في تونس وحتى للمواطنين لأنّ الثورة في اعتقاد أغلبية التونسيين قامت ضد القمع بشتّى أنواعه والتضييق على الناس وخاصة على حرية التعبير. أهل الثقافة الذين نراهم اليوم في مرمى النار توقعوا أن تهيىء الثورة مناخا يفسح المجال لانطلاق المواهب وأن تساهم في بناء عقلية متجددة مستلهمة من الثورة الثقافية وتقوم على أنقاض العقول المتحجرة. لكن الواقع يرسل بإشارات مختلفة. وقد حاولنا من جهتنا أن نطرح الموضوع على عدد من الفاعلين في الساحة الثقافية للوقوف على تقييمهم للوضع وإن كانت لهم مقترحات وربما حلولا للإشكاليات المطروحة على الساحة الثقافية في تونس اليوم العنف ينادي العنف أشار المسرحي منجي بن إبراهيم أن الفن والفكر والإبداع يجب أن يتقيد بالموضوعية والحيادية قائلا «الفوضى السائدة في بلادنا هي شيء مزعج ومقلق للغاية ولكني لا أستطيع أن أتهم أيا كان وأنسب الفعل إلى السلفية أو إلى أي حزب آخر لكن في اعتقادي أن من يقوم بهذه الأفعال هو مجرم بالأساس ويجب محاكمته ومعاقبته». ويضيف أن الانتقال الديمقراطي المنشود حتما ليس رهين العنف والإجرام والتشرذم وخاصة التطرف «فأنا ضد كل أشكال التطرف من تطرف ديني وفكري..لأنها لا تخدمنا في شيء خاصة وأن تونس تعد مزيجا من الثقافات والحضارات ومظاهر العنف كلها غريبة عن مخزوننا الثقافي». ثم إن الإجرام حسب محدثنا ضد المبدعين والمواطنين عامة يؤدي إلى ردود أفعال مختلفة ستنجر عنها فوضى كبيرة ولابد من التعقل وأخذ مصلحة البلاد بعين الاعتبار. وفي صورة استمرار الانفلات الأمني لا سمح الله- بين منجي بن إبراهيم أن المواطن التونسي على استعداد لصنع ثورة أخرى وأن صفة الخنوع التي اتهم بها مرارا لا تلزمه في شيء، فضلا على أن تحدي المسرحي والفنان التشكيلي والسينمائي والشاعر والموسيقي وكل مبدع سيتضاعف لأن الفنان حسب منجي بن إبراهيم يعيش من أجل الآخر وأن كائنا قويا يسكنه من خلال الفكر والحس مستعد الى مواجهة كل أنواع العنف والتطرف. وأضاف «من الممكن أن تقتل فنانا ولكنك لا تستطيع أن تقتل الإبداع». والإبداع حسب محدثنا يجب أن يرتقي الى منزلة التعليم والطب في علاقتهما مع المواطن وليس من المعقول أن يسحب هذا المفهوم الأساسي العميق في أبعاده ويذهب أدراج الرياح. تونس ليست أفغانستان من جهته أبدى الفنان إكرام عزوز استغرابه من المغالاة في تعنيف رجال الثقافة والفن في تونس وتغييبهم الكلي مقابل تجاذبات سياسية واضحة ناهيك أنّنا مثلا والكلام له- عوض أن نستشير بعض المفكرين والفنانين في بعض القضايا الهامة أصبحنا غالبا ما نحاور ونستجدي شخصيات نكرة بسيطة من حيث المستوى الفكري وهو أمر يدعو إلى طرح أكثر من نقطة استفهام أمام الوضع الثقافي في بلادنا. «تونس ما بعد الثورة» يرى إكرام عزوز أنّها أصبحت تشهد تهويلا مقصودا من بعض الأطراف على مستوى إثارة القضايا وتسليط الضّوء على ظواهر دون أخرى. كما أشار محدّثنا إلى الانحطاط الأخلاقي الذي أصبح سائدا في كامل أنحاء البلاد وهو ما لم نعشه كتونسيين منذ عقود قائلا «أحمّل كل التونسيين كامل المسؤولية في هذا الموضوع لأنّي أرى أنّ الحقد قد شحن القلوب والحال أنّ أبسط مقوّمات الديمقراطية هو قبول الآخر مهما كانت أوجه الاختلاف. ثم إنّي أدعو إلى ضرورة التحاور الحضاري في ما بيننا لعلنا نتجاوز محنتنا القائمة نحو غد أفضل». وحول الاعتداء بصفة خاصة على أهل الفن والإبداع يقول إكرام عزوز- «تونس ليست أفغانستان وأحرى على المتطرفين أن يقطعوا مع أحداث العنف التي لا مبرر لها، ثم إنّ أهل الثقافة في حال استمرار هذه الاعتداءات لن يتراجعوا عن النشاط في الحقل الثقافي بل سيزيدهم إصرارا على الإبداع والتفتح الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من الهوية التونسية. مزايدات سياسية أبدى الفنان منير الطرودي من جهته عمق استيائه تجاه «الوحشية» التي كان ضحيتها جملة من الفنانين التونسيين بعد ثورة14 جانفي قائلا» إن كان ذلك من أجل مزايدات سياسية فلعنة الله على السياسة، وإن كان ذلك في إطار تكفير الفنانين فذلك غريب عن أخلاقنا كتونسيين مسلمين». ثم أعرب منير الطرودي عن استغرابه من ردة فعل رجال الأمن والحال أن العديد من وقائع العنف كانت على مقربة من مراكز الأمن أو فرق وحدات التدخل لذا يرى محدثنا أن «السلطة يجب أن تتخذ الإجراءات اللازمة وعدم التردد أمام ردع هذه الممارسات غير المقبولة بقطع النظر إن كان الأمر يتعلق بالانتخابات القادمة أم لا ذلك أن توفير الأمن للفنان والمواطن عامة في هذه المرحلة الحساسة واجب مقدس. من جهة أخرى لم يخف منير الطرودي تخوّفه من احتمال أن التجمع المنحل بصدد إشعال الفتنة في البلاد من جديد. من منا سلفيا أكثر من الآخر؟ فؤاد ليتيم هو الآخر يندد بتعنيف بعض العناصر الدينية المتطرفة للفنانين وقال « أعتقد أننا كلنا مسلمون سلفيون قدوتنا السلف الصالح الذي ينبذ كل أشكال العنف المادي واللفظي» مضيفا أن هذا النوع من السلوك سيجرنا حتما الى الوراء. من جهة أخرى بين فؤاد أن الجرائم المرتكبة في حق الفنانين الأبرياء من شأنها أن تؤدي إلى جرائم أخرى، ذلك أن الفنانين في صورة تواصل غياب الأمن والحماية من المحتمل أن يردوا الفعل ويتأهبوا الى أية محاولة تعنيف أخرى وهو ما قد «يزيد في الطين بلة». هذا بالإضافة والكلام لمحدثنا- إلى أن الانحطاط الأخلاقي أصبح مهيمنا نتيجة للضغوطات السابقة والكبت الذي هيمن على النفوس.