أخيرا وبعد طول انتظار تمكنت لجنة التوطئة والمبادئ الأساسية وتعديل الدستور من صياغة مسودة توطئة دستور الجمهورية التونسية الثانية.. (انفردت بنشرها الصباح بتاريخ 5 جوان الجاري) وحظي مضمونها على ما يبدو لحدّ الآن من خلال أولى ردود الأفعال بشيء من الترحيب، مع بعض التحفظات في الشكل أساسا.. فهل بدأنا نتحسّس اولى نتائج ماراطون إجتماعات مطوّلة للجان التأسيسي.. على أمل أن لا تتوقف القطرة في نص التوطئة وتغيب المطر، ويشقى المواطن في عطشه في انتظار نصوص أخرى تروي ظمأه.. وتدخل عليه السكينة والطمأنينة. قد يصف البعض أشغال المجلس الوطني التأسيسي -المهمة الأصلية التي انتخب لأجلها- بالبطء الشديد، ونسق صياغته للدستور بأنه يسير على خطى السلحفاة، لكن في المقابل يرى آخرون أن مسودة الدستور -على هناتها- قد تبشر بغلبة منطق التوافق داخل اللجان التأسيسية المكلفة بصياغة مفاصل الدستور على منطق التمسك بالرؤى الشخصية والزوايا الحزبية الضيقة. فالتوافق في صياغة الدستور هو المخرج الوحيد لإقرار دستور الجمهورية الثانية يعكس بحق اهداف ثورة الحرية والكرامة، ويقطع نهائيا مع الفساد والاستبداد، ويغلب علوية القانون، ويعيد للمؤسسات الدستورية سلطتها وللدولة هيبتها، ويؤسس للتداول على السلطة، وللديمقراطية المنشودة القائمة على حق الاختلاف وحق الشعب في اختيار من يحكمه ديمقراطيا عن طريق صندوق الاقتراع، وحق المعارضة في التنظم ومراقبة الأغلبية الحاكمة.. التوافق سيظل دون شك طوق النجاة وسدا منيعا ضدّ المغالاة والتطرف والتشدد والتعسف على راي الآخر لفرض رؤية ضيقة قد لا تلائم غالبية الشعب التونسي الذي يميل بطبعه إلى الوسطية والاعتدال والانفتاح على الآخر، ودافعا قويا يساعد على ترجمة النقاشات وجلسات الاستماع إلى فصول وفاقية تبتعد قدر الامكان عن الاختلاف وتبحث عمّا يجمع التونسيين وما يوحدهم على أن تترك ما يمكن ان يكون حجر عثرة للتوصل إلى وفاق إلى الجلسة العامة.. ومهما يكن من أمر فإن المتابع لجلسات اللجان التأسيسية ولتصريحات رؤساء الكتل البرلمانية ولرئيس المجلس التأسيسي ومعاونيه، وحتى من خارج المجلس خاصة منهم زعماء الأحزاب السياسية وقيادييها.. يستدل إلى وجود وعي عميق للنخب الوطنية من أجل تفادي الوقوع في زلات غير معلومة العواقب تستند على منطق الأغلبية والشرعية الانتخابية، التي لا تنفع في راينا في مثل أمور تعتبر مصيرية مثل صياغة دستور خال من الشوائب، قادر على الصمود طويلا، ويكون نبراسا وتاجا ملهما لعدة اجيال، وجامعا لكل الرؤى والأفكار والمواقف مهما اختلفت، وحاميا للدولة المدنية واحترام اسس الديمقراطية. وتضاف مسودة التوطئة في انتظار مزيد العمق في شأنها، وبغض النظر عن مضمونها، إلى الفصل الأول من الدستور المرتقب الذي تم حسم الوفاق بشانه تقريبا بعد أن قررت حركة النهضة الابقاء على الفصل الأول من دستور 1959 كما هو دون تغيير وهو مطلب قوى سياسية ومجتمعية عديدة.. مسألة كتابة الدستور إذن يمكن النظر اليها من زاويتين وموقف كل مناصر كل منهما يبدو صحيحا: تتمثل الزاوية الأولى في اللوم الموجه إلى المجلس التأسيسي والقول بأن صياغة الدستور لا تتطلب هذا الكم الهائل من جلسات الاستماع واهدار الوقت في مناقشات عقيمة في حين أن معظم مفاصل الدستور هي مسائل بديهية توافقية لا خلاف كبير في شأنها ويمكن الحسم فيها في ايام، وهي مرتبطة اساسا بضمان الحريات الفردية والجماعية والحقوق الانسانية الكونية، وضمان التفريق بين السلط، والتأسيس لهيئات دستورية معدلة في عدة مجالات.. ويرى انصار هذا القول أن المجلس كان عليه ان يركز على المسائل الخلافية دون غيرها وعدم اثقال نفسه بمهام جانبية هي من مهام السلطة التنفيذية. لكن آخرون ينظرون إلى المسألة من زاوية ثانية، ويقرون بأن مهمة صياغة الدستور مهمة خطيرة تتطلب التأني والتريث والبحث عن التوافق قبل المرور إلى حسم المسائل الخلافية. والدليل على ذلك هو أن نص مسودة التوطئة -على علاته وعلى ضعف صياغته- لاقى قبولا مبدئيا على اعتبار أن التوطئة اتت على معظم المحاور الكبرى للدستور ومهدت له. على ان فريقا آخر من المحللين يقفون بين التشاؤم والتفاؤل ويرون أن المسائل الخلافية في مفاصل الدستور المرتقب ستكون حجر عثرة خاصة بعد أن تأجل الحسم فيها إلى الجلسة العامة للمجلس التأسيسي لعل أهمها طبيعة النظام السياسي، وصلاحيات رئيس الجمهورية، وعلاقة السلطة التنفيذية ببقية السلطات.. فضلا عن وجود أصوات من داخل المجلس نفسه ما تزال متمسكة بتضمين حكم الشريعة الاسلامية صراحة في الدستور وعدم الاكتفاء في ذلك بمضمون الفصل الأول منه. نص مسودة التوطئة جاء وفق آراء خبراء في القانون الدستوري وسياسيين توافقيا يحمل في جوهره بذور التفاؤل في بقية النصوص الدستورية التي ستكتب تباعا.. ويبقى مشروع المسودّة قابلا للتّعديل والإضافة إلى حين إقرارها نهائيّا من قبل اللجنة وعرضها على الجلسة العامة لمناقشتها والمصادقة عليها. جدير بالذكر ان أبرز ما جاء في التوطئة هو التأكيد على استمرارية الدولة من خلال الإشارة إلى عمقها التاريخي والمحطات النضالية والتاريخية التي مرت بها البلاد من المرحلة الاستعمارية إلى مرحلة الثورة ضد الاستبداد والفساد. وأكدت مسودة التوطئة على أن الدستور مستلهم من ثوابت الإسلام وقيمه الوسطية، ومن المخزون الحضاري للشعب التونسي وحركاته الإصلاحية.. وخاصة على مدنية الدولة القائمة على المؤسسات والنظام الجمهوري، وعلى التداول السلمي للحكم والتعددية الحزبية والحياد الإداري والانتخابات الحرة وعلوية القانون واستقلالية القضاء، وبقيم المساواة والعدالة التنموية..