نتابع الآن, و بكثير من القلق, كيف تحولت المفاوضات الاجتماعية إلى لعبة لي ذراع بين الحكومة و الإتحاد العام التونسي للشغل الذي حدد من تلقاء نفسه قاعدة التفاوض على أساس السنة باعتبار هذه الفترة هي مدة الحكومة المؤقتة. منذ 23 أكتوبر إلى اليوم لم تهدأ البلاد ليوم واحد. أعشاش الحرائق تتنقل من مكان إلى آخر, بعضها عفوي و غالبها منظم تحكمه قاعدة واحدة: لن نتركهم يحكمون. و قد أعانت الحكومة على نفسها كل الإطراف يوم تألقت بغياب التواصل مع الشعب و تألقت بفقر إعلامي مريب و يوم فشلت في كسب انخراط الإدارة و عجزت عن فرض القانون. في علاقتها بالأطراف الاجتماعية يصدق عليها مثلنا الشعبي جاء يعاون فيه على قبر بوه هربلو بالفاس. بعد سقوط رأس النظام أجرينا انتخابات, غير مسبوقة, لأعضاء المجلس التأسيسي, شكلنا حكومة و اخترنا رئيسا للجمهورية و ها نحن على أبواب صياغة دستور و انتخابات برلمانية. مكاسب تحققت ببعض الجعجعة لكن بثبات و خالية من الدم. من كل الدول العربية التي شهدت تحولات في نظامها السياسي لم توفق أي منها إلى تحقيق جزء من عشرة مما حققته تونس, إلا أن هذه القفزات النوعية يعمى عليها محترفو السياسة و أصحاب دكاكين الكلام و عوض الشروع في التغيير ببناء نظام جديد بدأنا للأسف بالتدمير و التخريب. كل مكونات المجتمع و الفعاليات السياسية و الثقافية و الإعلامية والحقوقية و الاقتصادية لازالت ترفض الانخراط في هذا التحول وكأنه فرض عليها فرضا. إضرابات في جميع القطاعات و تمرد طال حتى المؤسسات السيادية (عمال رئاسة الجمهورية و أعوان و موظفي المجلس التأسيسي). حركات تحرر تخترق كل القطاعات جميعها يرفع راية الاستقلالية و يطالب بإدارة ذاتية خارج جهاز الدولة. حتى ثروات البلاد طالبوا بتقسيمها و محاصصتها باعتبارها حقا لأصحاب الأرض. بعض المصانع و المنشآت توقفت بسبب مطالبة الأجوار بحقهم الطبيعي في جزء من الثروة. انفلات يترجم حالة جشع مرضية و محمومة لوضع اليد على جزء من غنيمة موهومة و استغلال ضعف الدولة و المؤسسات العامة للحصول على أكبر قدر من المكاسب. تسابق و تكالب على تقسيم تركة الخراب التي يغلب عليها الفقر و الجهل و اختلال الجهات و بطالة الشباب و انسداد الآفاق و اقتصاد هش. جثة الخراب التي خلفتها سياسة الفساد و الإفساد أصبحت غنيمة و تحولت إلى سبائك ثورية مستحقة, مرفوعة في وجه حكومة الثورة, فكيف سيبدأ البناء ؟ الإتحاد لا يجيبنا عن مصادر تمويل الزيادات التي يطالب بها, و كأن الأمر لا يعنيه, خصوصا و قد حرك مكينته مباشرة بعد التصويت على الميزانية التكميلية. فكيف لا يعرف الإتحاد خطر هذه الزيادات على تأزيم الوضع الاقتصادي؟ فهي تأتي مع تعطل و توقف آلة الإنتاج بعدما تحول العمل إلى مجرد حصة دوام فالكل يقبض آخر الشهر مقابل الدوام لا أكثر (مع بعض الاستثناءات للأمانة). فلا إنتاج لخلق الثروة و لا رقابة على التهرب الجبائي و لا موارد كافية لتغطية الحاجات القارة و لا إمكانات لمجابهة متطلبات التمويل الهائلة للتنمية و خلق مواطن الشغل. المطالب التي ينادي بها الإتحاد (زيادات,تسوية الوضعيات و التشغيل الحيني يتطلب ميزانية و موارد) أو التي أتفق عليها, هي كارثية بالمعنى الاقتصادي. لأننا نضخ كميات إضافية من النقود في اقتصاد يتقهقر فيه إنتاج السلع و الخدمات, ما يؤدي آليا إلى ارتفاع في الأسعار. هذا دون اعتبار النزيف الكبير لجزء من الإنتاج عبر مسالك التهريب الذي يتحول بدوره إلى كمية إضافية من النقد تزيد من حجم التضخم أضعافا مضاعفة. و لا نظن أن إتحاد الشغل تخفى عليه هذه النهايات. و مع ذلك يمارس الإتحاد لعبة لي ذراع الحكومة, كدليل رفض لهذه الحكومة, ربما يكون الغنوشي الأول اقرب للإتحاد من الغنوشي الثاني. الغريب أن لا احد لفت نظر المركزية النقابية لخطورة هذا الانزلاق الناعم نحو أزمة أكثر حدة و لم نسمع من الذين يحتلون وجوهنا و بيوتنا في وسائل الإعلام تنبيها من خطر وباء التضخم. هذه المحاذير لم تمنع الخطاب النقابي من التهديد بأجندات (إضرابات الجهات) لم يتجرا على رفعها في وجه دولة بن علي و الطرابلسية. وهو بهذا السلوك يثبت أنه على حالة ما قبل 14 جانفي, و أن قراءته للواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي للبلاد لم يتغير فيها شيء. فإذا كانت هذه السلطة هي تعويض شكلي لسلطة قديمة فأين تضحياتنا و أين أحلامنا؟ ثنائية الدولة-الإتحاد, التي كانت جزءا من منظومة الفساد, منطق ولى و انتهى و لن يبني مستقبلا, لأنه استنساخ و إعادة إنتاج للعلاقات المختلة الفاسدة التي كانت تحكم مؤسسات المجتمع و جهاز دولته. إذا قمنا بثورة و نحن نبني مجتمعا عادلا فالأجدر أن نرى جهدا جماعيا للبناء لا أن نعيد إنتاج علاقات صراع المصالح بين الدولة و بين هيئات ومنظمات المجتمع المدني التي تتبنى مطالب من أخرجتهم الدولة من حساباتها. فهل بقي بعد الثورة من تخرجهم الدولة من حساباتها ؟ لذلك ربما يعكس خطاب الإتحاد المتوتر رفضا صريحا للتغيير السياسي وربما يعكس أيضا اهتزازا في إيمان الحكومة أنها حكومة هذا الشعب. هذه الحكومة و من سيأتي بعدها يجب أن تكون حكومة للتوزيع العادل و المتوازن للثروة و نحن الآن ليست لنا ثروة نوزعها؟ في نفس الوقت لا نشك أن هذه المطالب المادية عائدة بالأساس إلى العمال والموظفين لكن مع ذلك و في هذه الظروف سوف يندم الشعب و الحكومة و الإتحاد و المنظمات على كرة التضخم التي ينفخونها لأنها ستنفجر في كل الوجوه. كل حكومات العالم الآن هي خارج أجندات النقابات لخطورة المرحلة و تداعيات الأزمة الاقتصادية, إلا إتحادنا يتعامل مع حكومتنا وكأنه في نهاية مشوار نضالي بعدما استنفد كل الحلول. على العكس, فقد نجح في افتتاح موسم المزايدات في ظل اقتصاد مشلول و بعملية إستقواء فاضحة على قدرات الاقتصاد الوطني و لا نقول على الحكومة. وهم التوافق و الاستقرار ربما يدفع الحكومة للتداين للاستجابة لهذه الضغوط, و طبعا لن يدفع قروضنا لا أعضاء الحكومة و لا أعضاء المركزية النقابية من جيوبهم, بل نحن و أبناؤنا من سيقتطع جزء من عرقنا و لحمنا لسداد هذه الديون. هذه الورقة ليست دفاعا عن الحكومة, بل عن تونس, لأن حكومتنا الموقرة الآن هي أشبه بمريض الربو في قلب حريق, فمع قصور التنفس لا يستطيع التعامل مع الدخان, أما لغم الإتحاد-الحكومة فيجب على كل الأطراف تفكيكه. مصطفى البعزاوي