مظلومون مرتين..حرمان من المساواة في التنمية ونظرة دونية باعتبارهم مصدر «إزعاج وقلق» - مبحث طريف تطرّق إليه المعهد العربي لحقوق الإنسان في منتدى حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفئات المهمشة المنتظم أمس بالعاصمة بحضور نخبة من الجامعيين والمثقفين، يتعلق بمعاناة الفئات المنسيّة في أحياء شعبية بالعاصمة ومدن تونسية أخرى وخلص هذا المبحث إلى أن سكّان العديد من الأحياء المقصيّة ظلموا مرتين، مرّة لأنهم حرموا من المساواة في الحظوظ التنموية والتمتّع بمرافق الحياة، وأخرى لأن المجتمع كثيرا ما ينظر إليهم نظرة دونية ويحذر منهم وينفرهم ويعتبرهم وصمة ومصدر إزعاج وقلق. واعتمادا على دراسات سوسيولوجية وشهادات حية لمواطنين مهمشين في هذه الأحياء خاصة الموجودة بالعاصمة اتضح أن نسبة البطالة مرتفعة جدا في هذه الأحياء ونسبة الفقر والجهل أيضا، الأمر الذي ساعد على انتشار تعاطي المخدرات والإدمان على الكحول وعلى الاتجار بهما وشجّع على ممارسة الدعارة. وقالت لمياء قرار المديرة التنفيذية للمعهد العربي لحقوق الإنسان إن هذا البحث الذي أجراه المعهد حول مسألة التهميش في تونس وينتظر إصداره عما قريب، ركز خاصة على حي السيدة بالعاصمة وحي رزيق في قابس وبعض الأحياء بصفاقس وغيرها قصد معرفة أسباب التهميش وآثاره والأدوار الممكنة للمجتمع المدني وللخواص والدولة للحد منه. وفسر الأستاذ عبد الباسط بن حسن رئيس مجلس إدارة هذا المعهد أن المقصود بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي هو عزل يقوم على آليات متعددة قد تتحول أحيانا إلى ثقافة يستبطنها الناس في أشكال عديدة من التهميش، إذ هناك من ينبذ الأحياء الفقيرة وهناك من يشيح بوجهه عن الفقير او المتسول أو النازح أو اللاجئ أو صاحب البشرة السمراء. وقال إن نظريات حقوق الإنسان تمكّن من تحليل آليات التهميش ومنظوماته ونقد هذا التهميش وفضحه، ومن إبلاغ أصوات هؤلاء الى صنّاع القرار والمجتمع. وأضاف الأستاذ بن حسن أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليست في وضع جيد اذ أنها تقوم على التمييز بين الفئات والجهات في غياب تصور واضح للتوزيع الاقتصادي والاجتماعي الذي يقوم على المساواة والكرامة. ويتطلب الأمر بعد الثورة، على حد تأكيده، قيام سياسات اجتماعية تمكن من تقريب الفجوة بين الفئات الاجتماعية، ولاحظ أن النقاش السياسي و السياسوي الذي يتحول الى صراعات إيديولوجية لا يترك مجالا كبيرا لسياسات اجتماعية.. وما يبذل الآن من مجهود على مستوى إرساء السياسات الاجتماعية لا يرتقي الى المستوى المطلوب بعد الثورة.. وأكد الأستاذ عزام محجوب على أن الفقر والبطالة لهما آثارا واضحة في تعميق الهوامش، ولاحظ أنه من جملة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يجب احترامها ودسترتها هي الحق في مستوى معيشي كاف لضمان الصحة والتغذية والمسكن ورعاية الطفولة والأمومة، إضافة إلى الحق في الشغل والحماية الاجتماعية. وبين أن احترام هذه الحقوق وحمايتها وأفعالها يستدعي بذل جهد كبير.. وتتطلب كل مرحلة منهجية واضحة للمحاسبة والمقاضاة، إذ هناك معايير ومقاييس ومنهجيات مضبوطة تمكّن من قياس وتقييم مدى التزام الدولة بتوفير هذه الحقوق.. ولاحظ أن الثورة بينت أن التماسك الاجتماعي في تونس مختل، وأنه اذا لم يقع اتخاذ الإجراءات اللازمة للحدّ من الإنخرام في الإنصاف الاجتماعي، سيؤدي الوضع الى انفجار. ويرى الأستاذ عبد الستار السحباني رئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع أنه يجب تغيير المنوال التنموي لأنه غير سوي ويجب أيضا مراجعة التقسييم الإداري لأنه قائم على أسس أمنية وليس تنموية. أحياء مهمشة ومن أمثلة الأحياء المهمّشة التي تم تقديمها أمس خلال اليوم الدراسي حي السيدة بالعاصمة وحي الزريق بقابس وعدد من أحياء أخرى بولاية الكاف. وفي دراسة ميدانية قدّمها الباحث الحبيب العايب تتعلق بالتهميش الاجتماعي والاقتصادي بحي السيّدة كشف أن الخوف من سكان هذا الحي ليس في محله خلافا لما يتبادر إلى أذهان البعض من أن من يدخله يمكن أن يعامل معاملة سيئة ويتعرض للسرقة. وبين الباحث أن شباب هذا الحي يجدون صعوبة في العثور على شغل، لأن المشغل وبمجرد ان يعرف أن طالب الشغل ينحدر من هذا الحي يتراجع عن الانتداب. كما أن المريض الذي يأتي من حي السيدة للمستشفى لا يعامل نفس معاملة مريض آخر قادم على سبيل المثال من المرسى أو المنار حتى وإن كان في حوزته ما يكفي من المال. وأضاف الباحث أنه دخل بيوت عديدة في هذا الحي والتقى أشخاصا كثيرين واطّلع عن كثب على ظروف حياتهم وفهم الأسباب التي جعلت العديد منهم يمارسون العنف والسطو على متاع الغير أويستهلكون المخدرات أويمارسون الدعارة.. وقال :»يعتقد البعض ان هذه الممارسات تقع في هذا الحي فقط لكن هذا ليس صحيحا.. فأغلب من يتاجرون بالمخدرات لا يفعلون ذلك في الحي ومن يمارسن الدعارة أيضا، بل يذهبون إلى أحياء راقية، لكن هذا لا ينفي أن هناك مشكل استهلاك المخدرات في صفوف أطفال حي السيدة الأمر الذي يتسبب في إبعادهم عن المدارس. ولاحظ أن «عددا كبيرا من السكان هناك لا يتمتعون بالصرف الصحي وهناك عائلات عديدة تقطن في غرفة واحدة تتسع لجميع أفرادها فيها يأكلون وينامون، وعندما يرغب الزوجان في علاقة حميمة يطردان الأطفال إلى الشارع». ولا يختلف الوضع في حي الزريق بقابس كثيرا عن حي السيدة لكن التهميش في هذا الحي حديث العهد في حين أن التهميش في حي السيدة يعود إلى زمن بعيد.. وتتساءل مها عبد الحميد طالبة المرحلة الثالثة التي اجرت دراسة على حي الزريق بقابس من ينتج هذا التهميش؟ هل هي السلطة في تعاملها مع هذه الفئة؟ أم الامر يعود للأفراد أنفسهم، وكيف يمكن للإنسان أن يسكن السيدة وحي زريق دون أن يكون مهمشا اجتماعيا؟ ومحاولة لتقديم صور حية عن التهميش الاقتصادي لسكان أحياء بولاية الكاف عرض قسم الإعلام بالمعهد العربي لحقوق الانسان شريطا وثائقيا مؤثرا عنوانه «المنسيون» إخراج أمينة جبلون وكشف هذا الشريط الذي عرض شهادات حية لعدد من المواطنين معاناة هؤلاء من الفقر والبطالة والمناخ القاسي. الأطفال والأقليات إلى جانب الأحياء والجهات المهمشة هناك فئات مهمشة، وتحدّث الأستاذ مختار الظاهري من «اليونسيف» عن الأطفال وبين أن تهميشهم تفاقم بعد الثورة، فالاهتمام العام منصب حاليا على المواطن الناخب وليس على الأطفال. وقال إن الكثير من الأطفال يتخلّون عن الدراسة بسبب عدم قدرة أسرهم على توفير مصاريف دراستهم وإن تسعين بالمائة من أطفال تونس معرضون للعنف ونسبة كبيرة منهم يعيشون في الجهات المهمشة كما ان ثلثي وفيات الأطفال تتم في المناطق الريفية بسبب اتساع الفوارق بين الجهات وعدم توفر سيارات الإسعاف المجهزة على النحو المطلوب. وأثارت الباحثة مها عبد الحميد مسألة الأقليات وبينت أنه بكل أصنافها مهمشة، وهي بعيدة عن الطرح العلمي والسياسي. وبين الأستاذ سمير بوعزيز مسؤول قسم الاعلام بالمعهد العربي لحقوق الإنسان انه لا يمكن الحديث عن الفئات المهمشة دون الحديث عن السياسات العامة والبرامج العامة السابقة ومحصلتها إلى هذه اللحظة والتغيرات التي حققتها الثورة. وبين أن المجتمع المدني له قوة الاقتراح والاحتجاج.. ويمكنه ان يساهم في التغيير للحد من التهميش والإقصاء. يذكر أن المنتدى يتواصل اليوم في شكل ورشات عمل حول الإصلاحات والأدوار الممكنة لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من أجل تنمية عادلة والتقليص من الهوامش.