لهذه الأسباب سلط علينا العقاب الجبائي والمؤسسة ضحية من خافوا على امتيازاتهم من محمد بن اسماعيل واعون بأن باب الحرية إذا فتح سيسعى البعض إلى غلقه.. ولا تنقصنا الأمثلة على ذلك اِستفاد قطاع النشر في تونس من الثورة الشعبية تماما مثلما استفاد الكاتب التونسي منها. صحيح لا نملك أرقاما دقيقة حول الموضوع لكن حجم الكتب الصادرة يوميا منذ 14 جانفي 2011 يؤكد أن قطاع النشر في بلادنا يشهد انتعاشة على الأقل على مستوى الكم. وفي حديثنا معه لم ينف الناشر كريم بن اسماعيل وهو على رأس إحدى أبرز المؤسسات في المجال, دار سيراس للنشر, الأمر بل أكد أنه لأول مرة يكون الإقبال على الكتاب التونسي أكبر من الإقبال على نظيره الأجنبي. إلى أي حد يمكن أن تستمر هذه الانتعاشة التي يشهدها قطاع النشر والتوزيع في ظل وجود مؤشرات تؤكد أن جانبا من المجتمع وخاصة من النشطاء الذين يستندون إلى مرجعيات دينية تحدوهم الرغبة في الإسراع بغلق باب الحريات العامة والشخصية الذي فتحته الثورة الشعبية بدون استئذان من أحد. طرحنا هذه الأسئلة على ضيفنا الذي يدير سيراس للنشر بعد أن أخذ المشعل عن والده الناشر المعروف محمد بن اسماعيل فكان الحوار التالي: * دفعت الثورة على ما يبدو دور النشر إلى مراجعة برمجتها وحتى تغييرها بالكامل كيف كان الأمر بالنسبة لسيراس للنشر وكيف أصبح عليه اليوم بعد مرور عام ونصف العام على الثورة الشعبية؟ فعلا جلسنا كفريق عمل نفكر حول طريقة العمل. طرحنا السؤال ماذا نفعل والأحداث تتلاحق. في الأيام الأولى التي تلت الثورة أصبحنا كل نصف ساعة تقريبا إزاء حدث جديد. قررنا أن نوقف برنامجنا السابق وتفرغنا لنشر النصوص التي تتحدث عن الثورة. رأيتم أننا نشرنا كتبا متنوعة، بحوثا سياسية وتحاليل إلخ... نحن ندرك أن دورنا في المجتمع مختلف. لا نعمل مثل الصحفيين الذين عليهم ملاحقة الحدث وقت وقوعه. دورنا يتطلب منا أن نتمعن في الحدث وأن نحاول أن نفهمه وأن نفهم أسبابه ومسبباته. المهم أن العلامة المميزة في برنامجنا هي الاقتراب أكثر من هواجس التونسيين. كنا في عهد بن علي وحتى في أواخر عهد بورقيبة من الصعب أن نصدر كتابا يتحدث عن المجتمع التونسي. كان الأمر صعبا جدا وخاصة في حكم بن علي. الثورة شرّعت باب الحرية واسعا وبالتالي لابد من استثمار هذا الأمر جيّدا. * عمليا كيف تمّ استثمار الوضع الجديد أو حرية التعبير التي أصبحت متاحة وكيف انعكس ذلك على القراء؟ أصدرنا عشرات الكتب حاولنا أن نفهم لماذا قامت الثورة في تونس، لماذا خرج الشباب بمختلف انتماءاتهم خاصة في الجامعة والذين تربوا في أغلبهم على سياسة بن علي لماذا خرجوا إلى الشارع ولماذا أطاحوا بالنظام. لقد أعطينا الكلمة للناس، لهذا ولذاك. وقد كسبنا بفضل ذلك شريحة جديدة من القراء خاصة من الشباب ويمكن التأكيد أنه لأول مرة في تاريخ المؤسسة يحتل الكتاب التونسي المرتبة الأولى في ترتيب الكتب المقتناة بالبلاد. عملية البيع على الإنترنيت لاقت كذلك إقبالا كبيرا وقد استفاد منها كل من يريد اقتناء الكتاب وهو لا يستطيع أن يتنقل لأجل ذلك لغياب مكتبة في الحي مثلا أو لأنه ببساطة يحبذ أن يأتيه الكتاب حيثما يوجد. . لكن كل ذلك لا يجعلنا نغفل عن الحقيقة. نحن واعون أننا في ظل ظاهرة جديدة على المستوى المحلي وحتى العربي. فباستثناء الأضواء التي عرفتها الجزائر في وقت ما لم يكن هناك مكان لحرية التعبير في العالم العربي. دورنا كناشرين -وقد قلتها منذ 15 جانفي 2011 أن باب الحرية عندما يفتح سيكون هناك من يحاول أن يغلقه- أن نبقى يقظين. * إلى ماذا تستند حتى تتوقع أن باب الحرية قد لا يستمر طويلا مفتوحا؟ هناك عدّة مؤشرات تؤكد ذلك. هناك حركات سلفية تريد فرض قانونها على الناس وهناك توجه إلى عرقلة حريّة التعبير والإبداع والأمثلة على ذلك متعددة. اقتحام أروقة فنية, اقتحام دور عرض سينمائي ومحاكمات من أجل نشر صور أو مقالات إلخ... سبق وأن نشرنا مثلا للرسّام الكاريكاتوري «زاد» (لم يكشف بعد عن اسمه الحقيقي) الذي انتقد كل رموز السياسة من الرئيس السابق فؤاد المبزع ومحمد الغنوشي وراشد الغنوشي والباجي قائد السبسي وغيرهم لكن السؤال اليوم: هل يمكن أن ننشر مجددا ل»زاد»؟ هل يمكن ذلك وهناك من يقف أمام المحاكم بسبب عرض فيلم. ربما هناك قضايا عاجلة في تونس اليوم على غرار البطالة والفقر والتهميش لكن الحريات قضية مهمة وجوهرية واستراتيجية. أعتقد أن الإعلاميين اليوم في الواجهة للدفاع عن الحريات لكن الحريات قضية تهم الجميع وعلينا أن نقف كناشرين وإعلاميين ومثقفين مبدعين صفا واحدا كي يبقى الباب مفتوحا. * إقبال القارئ التونسي على الكتاب التونسي يعود لظرفية معينة أم لأسباب تتجاوز المرحلة الحالية ربما لما هو أعمق؟ الإقبال الكبير على الكتاب التونسي يعود إلى أن القارئ التونسي وجد مواضيع تهمه. القارئ التونسي يريد أن يعرف تاريخ بلاده المعاصر. التونسي تعرّض لمظلمة كبيرة في العقود الأخيرة. لقد قلعوا جذوره. نريد أن نعرف من نحن ونريد معلومات تاريخية لا تقف عند عهد الخلفاء وغزو بني هلال. نريد أن نعرف ماذا حدث منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى اليوم. * تتولى مؤسسة سيراس للنشر إعادة طبع الكتب التي تصدر بالخارج وخاصة عن دور النشر الفرنسية كما تتولى توزيع الكتب الأجنبية في بلادنا هل تحافظون على نفس جودة الكتاب عندما تقومون بإعادة نشره وهل يضيّق توزيع الكتب الأجنبية على الكتاب التونسي؟ فعلا نشتري حقوق النشر لعدد من الكتب التي تصدر بالخارج. ولعل آخرها كتاب هشام جعيط الأخير الصادر عن الدار الفرنسية «فيار» للنشر. نحن لا نلتزم فقط بنفس الجودة وإنما نقدم جودة أفضل في أغلب الأحيان وقد حدث وأن أجلنا نشر كتاب بعد شراء حقوقه من مؤسسة نشر فرنسية معروفة لأننا وجدناه مليئا بالأخطاء. نحن نقدم منتوجا بجودة أفضل وثمن أقل. أما فيما يخص تأثير الكتاب الأجنبي فنعتقد أنه لا يؤثر كثيرا لأن قلة قليلة من التونسيين تتناوله نظرا لثمنه. وهي تقتني بالخصوص الكتاب الذي يتحدث عن تونس * كريم بن اسماعيل تسلم إدارة المؤسسة عن والده الناشر المعروف محمد بن اسماعيل هل أن مهنة الناشر قدر هذه العائلة؟ كنت قد بدأت في مباشرة عملي في الخارج بعد أن أتممت دراستي بفرنسا عندما اضطررت للعودة إلى تونس. وقتها كانت ظروف مؤسسات والدي صعبة. تعرفون أن مؤسسة سيراس للنشر خضعت في ظرف وجيز إلى المراقبة الجبائية في عدد كبير من المرات. ثماني (8) مرات متتالية وقد أتت كلها نتيجة حسابات سياسية ضيقة. منذ 15 سنة والمؤسسة تدفع آداءات ضخمة. لقد خشيت بعض الأطراف التي كانت مقربة من الرئيس المخلوع مما تصورته تهديدا لمكانتها وامتيازاتها بعد أن ترأس والدي الحملة الانتخابية الرئاسية لسنة 1994. لقد كان مستقلا ولم يكن رجل سياسة أو رجل دولة كل ما في الأمر أن الرئيس السابق اختار وجها جديدا ولم تكن لأبي أيّة طموحات سياسية ومع ذلك دفع الثمن باهظا. مازلنا ندفع إلى اليوم مبلغا كبيرا ومنذ 15 سنة رغم أنني توجهت بشكوى في الغرض إلى لجنة تقصي الحقائق التي كان يرأسها المرحوم عبد الفتاح عمر وقد تلقيت ردا شبيها برد بن علي. فضلت إذن والظروف كانت على تلك الحالة أن أقف مكان والدي أمام المحكمة. لقد غيروا القانون كي يعاقبوا المؤسسة. عامان ونصف تقريبا أمام المحكمة من أجل معاقبة رجل شاء القدر أن يتصور أحدهم أنه يهدده في موقعه وفي امتيازاته. اقرؤوا شهادة «ديلاميسيزيار» حول ذلك. * سيراس للنشر مؤسسة تقوم بدور نشيط في التوزيع وخاصة توزيع الكتب الآتية من الخارج هل نتوقع مثلا أن توزع الكتاب الجديد لزوجة الرئيس المخلوع؟ لا يمكن لمؤسستنا أن تقوم بهذه المهمة. ربما نطالب بوضع النص على الإنترنيت لكننا لن ننشره ولن نوزعه ولن نقتنيه. أخلاقيا ليس من اللائق أن يتجول الواحد اليوم في شارع الحبيب بورقيبة وصور بن علي وكتبه في واجهات المكتبات. لا ينبغي للتونسي أن ينفق على هذه المرأة ولو مليما واحدا.