محللون وسياسيّون: إنحطاط الخطاب السّياسي قد يغذي العنف ويؤدّي إلى هجر التونسي للإنتخابات القادمة؟ بالرغم من سعي الفاعلين في الشأن السياسي اليوم إلى إقناع الرأي العام الوطني على أن المشهد السياسي طبيعي وتفرضه مقتضيات المرحلة الانتقالية إلا أن التونسي لم يعد خاف عليه ان اختلاف المرجعيات الفكرية والإيديولوجية والسياسية فرض سلوكيات رآها جزء كبير منه منافية للأخلاق «والسياسة أخلاق او لا تكون». فهل السياسة مجرد تقنية للحكم؟ وكيف يمكن تجنب العنف والتشنج على مستوى الحوار السياسي؟ وهل ستكون للازمة الأخلاقية السياسية تبعاتها على الاستحقاق الانتخابي المقبل؟ بات التحلل من القيم الأخلاقية وإباحة مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» الحكم اليوم في رسم التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس ما بعد الثورة وكأن المشهد السياسي اليوم -حسب عديد المحللين والمتابعين للشأن السياسي الوطني- يعيدنا الى الفكر «الميكيافيلي» وهو ما من شانه ان يجرنا من جديد الى الاستبداد وما سيميز الحقل السياسي في الفترة القادمة هو بروز معلمين كثر للاستبداد بدلا من المعلم الواحد كما كان سائدا في الماضي. ويرى البعض الآخر أن الفترة الحالية التي تمر بها البلاد سيطرت عليها المادة السياسية وخوض جميع الحروب الفكرية في محاولة لتغليب إيديولوجيا على أخرى، وهو ما مهد لوجود أزمة سياسية تلوح في الأفق وقد تكون افرازاتها وخيمة على المرحلة القادمة التي ستجتاز فيها مختلف التيارات الفكرية «امتحان» الاستحقاق الانتخابي ويكون الحكم فيها الشعب التونسي. أزمة أخلاقية.. يقول محسن الخوني مدرّس الفلسفة ان السياسة مجرّد تقنية لحكم الجماهير معيارها النجاح فقط لأنّ السياسة -في نظره- تقنية تقوم على أسس أخلاقيّة تتعلق بالأفراد وهي ذات بعد اجتماعي. واعتبر إن السياسة «لغة أو على الأقلّ تبدأ باللّغة وتتجسّد فيها والتحكّم في السياسة يبدأ قبل كلّ شيء بتملّك تقنيات الخطاب السياسي.» ولاحظ الخوني أن الخطاب السياسي الحالي يعاني في كل المستويات الثلاثة (الرئاسة والتأسيسي والحكومة) من أزمة أخلاقيّة تكمن في المجالات التي يتمّ فيها النقاش أو الحوار حيث كثيرا ما تغيب الشروط الأخلاقية للحوار وهو اعتراف كلّ طرف بأن الطرف الآخر شريك في الوصول إلى التفاهم، خاصة عندما يكون الشركاء أقلية أو من مكوّنات المجتمع المدني المستقلّين. لذلك تبدو حجّة الأقوى(عددا أو تمثيلية) هي الحجّة القويّة ويظهر ذلك في حسم الاختلافات بالتصويت. لكن يمكن أن لا تكون الأغلبية على حقّ. فالخطاب السياسي يصبح لا أخلاقيا عندما يستمع المواطن إلى مسؤول يقول كلاما مجانبا للحقيقة أو مزيّفا لها وسرعان ما تخرج حجج التكذيب بسرعة على شبكات التواصل الاجتماعي وهذا ما يحصل باستمرار. كما ان الوعود التي اطلقت خلال الحملات الانتخابية ولم تنجز أو القرارات والأوامر التي لا تنفّذ، تضعف من المصداقية الأخلاقية للأفراد وجماعاتهم التي يتكلمون باسمها. وحسب محدثنا فان من مظاهر إفلاس الخطابات السياسية اليوم توجيه الاتهامات التي تصل إلى حدّ تخوين الناقد المعارض للرأي أو للقرار المتّخذ. وعلى العكس من ذلك فان القيمة الأخلاقية للشخصيات السياسيّة تتكون من معرفة رصيد كل منهم من النزاهة والتقدير و تزعزعها إن كانوا من المفلسين أخلاقيّا. ألوان من العنف السياسي ولاحظ مراد الرويسي عالم الاجتماع السياسي أن ألوان العنف السياسي تنوعت من عنف لفظي ونفسي بسيكولوجي ورمزي على مستوى الحوارات التلفزية والإعلامية وفي الندوات الصحفية، وكذلك داخل المجلس التأسيسي أول مؤسسة شرعية بعد الثورة. وقال إن «الصدمة» التي تلقاها التونسيون من خلال متابعتهم للشأن السياسي والتجاذبات الفكرية العنيفة، والتشنج الذي ميّز الحوارات السياسية، قد يؤدي ذلك الى عواقب لا يحمد عقباها، من تراجع نسبة التصويت في الاستحقاق الانتخابي القادم كما تطرح فرضية ثانية تتمثل في أن من شأن الناخب التونسي أن يغيّر وجهته الانتخابية نحو شخصيات أخرى أكثر جدية واحتراما للمبادئ ومكارم الأخلاق. أزمة الخطاب السياسي لكن صلاح الدين الجورشي الإعلامي والمحلل السياسي يرجع إشكالية التحلل من القيم الأخلاقية في الحوارات السياسية الى ما تمر به تونس في هذه الفترة من ازمة على مستوى الخطاب السياسي وذلك بسبب التجاذبات الايديولوجية ومحاولة التقليل من الراي المخالف وهذا يعود الى غياب الأطر والفضاءات التي من شانها ان تؤسس لحوار بين الأطراف المتنازعة. وحذّر الجورشي من تهديد العنف على مستوى الخطاب السياسي، الوفاق الوطني حول المسائل المصيرية التي تشكل العمود الفقري للوحدة الوطنية مؤكدا على أن ما تحتاجه تونس اليوم هو الارتقاء بمستوى الخطاب السياسي وتجنب اللجوء الى العنف سواء كان ماديا او معنويا لان الاستمرار في الإقصاء المتبادل قد ينعكس سلبا على المرحلة الانتقالية وينتهي الى تحويل المجتمع الى فضاء يختزن العنف وينتج التطرف اللغوي والعقائدي والمادي. وقال :»بعد ان تراجعت ثقة التونسي في نخبه السياسية يخشى اليوم ان يتكرر سيناريو الانضواء وعدم المراهنة على هذه النخب واذا ما ترّسخت فكرة العزوف من جديد لدى التونسي وحماسهم الذي ميّز الانتخابات السابقة يمكن ان يتراجع مما قد يقلل من نسبة الاقبال على صناديق الاقتراع.» وذكّر الجورشي بنتائج سبر الآراء الأخير الذي كشف ان نسبة التونسيين الذين باتوا لا يعرفون لمن سيمنحون أصواتهم في الانتخابات القادمة في تزايد وهذا يعكس حالة الارتباك التي بدأت تتبع توجهات جزء هام من التونسيين. انزلاقات لم تخف بعض الشخصيات والنخب الفكرية والسياسية في حديثها ل «الصباح» الخوف من تأثيرات وتبعات العنف السياسي الذي ميز الحوارات واللقاءات بعد الثورة من ان يكون له تأثيرات وخيمة على المشهد السياسي. فقد أرجعت نزيهة رجيبة ( ام زياد) قوة الخطاب السياسي الى مقتضيات المرحلة المتوترة التي تشهدها البلاد ولم تنف تميز اللغة المستعملة في الحوارات اليوم بالانزلاقات والخروج عن الموضوع والتشنج. لكن منجي الرحوي نائب المجلس التأسيسي، ورغم أنه استبعد أن يكون الخطاب السياسي قد وصل إلى حد الانزلاق، إلا أنه لاحظ أن ذلك لا ينف وجود بعض التجاوزات مذكرا بالثوابت الأساسية التي يقتضيها الحوار السياسي. التأسيس لقاعدة حوار وقال الرحوي:» لم نصل في تونس الى حوار سياسي وفكري وما هو موجود اليوم هو تجاذبات فكرية وصراعات سياسية، ومن المهم بعد هذا الاستنتاج العمل على التأسيس لقاعدة حوار بين مختلف التيارات الفكرية الكبرى تمكنهم من رؤية جديدة وتؤسس لعلاقة بعيدة عن القواعد التقليدية والكلاسيكية». وحذر الرحوي من ان تكون لتبعات التجاذبات السياسية وفقدان الحوار الفكري للقيم الأخلاقية تأثيرات سلبية على الاستحقاق الانتخابي القادم قد يصل حدّ «مهاجرة « التونسي لصناديق الاقتراع. ومن جانبه لاحظ أزاد بادي نائب المجلس التأسيسي أن كل الوسائل أصبحت مشروعة في المشهد السياسي التونسي، وقال: « للأسف ثورة تونس كانت ثورة مادية بالأساس اختزلت في مطالب اجتماعية وما نحتاجه اليوم هو اعادة بناء القيم.»