أيام صعبة تمر بها تونس ولا شك، أيام لها ما بعدها دون تهوين أو مبالغة، بمثل هذا المشهد المرتبك بدأت بعض المصائب الكبرى في تاريخنا القريب جدا وعلى مرمى حجر من بيتنا، فالحذر مطلوب والوعي بخطورة الحدث مطلب استراتيجي لبقاء الثورة، أو العودة القهقرى إلى منازل الاستبداد والهلاك. إن الحالة السيئة التي وصلت لها البلاد تعتبر نتيجة طبيعية لمنهجيات ومواقف طبعت المشهد العام عموما والمشهد السياسي خاصة، وكانت مساهمة الجميع وبنسب معينة في هذا المنحدر الخطير، ولن يدعي أحد براءته، فقميص عثمان هذه المرة موزع على كل الأطراف، فللسلطة دورها وللمعارضة دورها وللشعب الكريم دوره أيضا... 1 / وبهذا الشعب نبدأ وإليه أنتسب فعقلية «توّا» عند البعض قد هيمنت على المشهد وأربكته وتعالت على الأطراف مطالب وحاجيات لا ننكر سلامتها ولكن لنا منها تحفظ في توقيتها والتسرع في الاستجابة لها، رغم أننا نتفهم تعطش هذا الشعب الأبي وهو يخرج من رباعية مهينة تفقير وتجهيل وفساد واستبداد، ونتفهمه وهو يرى جزء ممن انتخبهم ينادون بزيادة أجورهم على حساب بلد يموت...ولكن فصل الحصاد لم يأت بعد والثمرة لم تنضج بعد وكان الأجدر قليلا من الصبر وإن كان بكثير من الصعوبة ولا شك. نعم مساهمة هذا الشعب ليست بالكبيرة مقارنة بما قدم من تضحيات وما حمله من آمال وانتظارات، ومقارنته بأدوار المعارضة والسلطة، ولكنها مساهمة وإن كانت نسبية إلا أنها معتبرة في ميزان إرباك المشهد عموما. إن ترك الشأن العام واللامبالاة و»إذا ريت الي راكب على فرس قلو مبروك الحصان» هي أكبر مساهمة يمكن أن يقدمها الشعب لهذا الواقع المتردي، فالسلبية ورمي المنديل ومغادرة الإطار تمثل ولا شك عونا لقوى الردة في التمدد واستغلال الفراغ، والطبيعة تهاب الفراغ وإذا لم يملأه الشعب بيقظته ملأه غيره بتسميم المسار العودة إلى الوراء! 2/ والمعارضة مسؤولة ولو بنسب متفاوتة فيما بينها، وهي تعتمد في الغالب وعند البعض منها منهجية معيز ولو طاروا، ولغة الصم البكم في بعض الأحوال. معارضة من أجل المعارضة أو خالف تعرف، حتى لا تموت وتختفي وكأن جراحات الانتخابات لم تسكن وتنتهي. لقد نسي البعض أن له الحق أن يعارض ولكن من واجبه أن يبني ولو كان خارج السلطة. نسي البعض أن الدور الأساسي للحزب ليس السلطة فقط ولكن تأطير الشعب حتى يعيش مسؤوليته ومدنيته ومواطنته كاملة في الوعي والاهتمام بالشأن العام متابعة وتقييما وتقويما...معارضة أثبتت في الكثير من مواطن الفعل غياب المبادرة والبديل! وهي بلا شك بين حلين، البديل موجود وهي تخفيه وتبقى في مستوى النقد والهدم، هذا على حساب الشعب والبلد، أو أن البديل غير موجود وهنا المصيبة أكثر إيلاما وخطورة. وكم عاشت بلادنا على معارضة مفقودة أو مغشوشة ومزيفة وقد ساعد حالها على استتاب الأمر للاستبداد وعمق استفراده وجوره وعدوانه. 3/ أما عن السلطة فمسؤوليتها أكثر حجما ويمكن ملامستها في سمات أربع: * عدم حسن تقدير مواقف خطيرة تبرز في بعض القرارات الحساسة كالدعوة إلى مظاهرة يوم الجمعة والبلد لم يلملم جراحه بعد وكل البلاد على كف عفريت. [وحسنا فعلت الداخلية في تدارك الموقف] أو فيما قام به أعضاء المجلس التأسيسي من زيادة غريبة في أجورهم والوطن لم يكتمل تضميد جراحه، والمواطن البسيط عاجز عن استكمال شهره دون هموم وديون. * استعلاء غير مبرر وعدم تواضع عند البعض في مقابل بعض الأحداث كالمناداة بمنهجية المؤامرة في فهم بعض الوقائع، أو تقزيم الفعل المعارض والنظر إليه من الباب العالي حتى رأينا أحدهم يشفق على حال المعارضة في مقابل نظرة أستاذية وثقة متعالية في ضمان نتيجة الانتخابات القادمة! * غياب الحزم والحسم وبقاء الموقف يتمايل في نقطة التردد والارتباك، كمعالجة بعض الحالات حيث لم نر حوارا وإلا لرأينا خيوطه، ولم نر مواجهة وإلا لمسنا هراواتها! لقد كان هذا التردد إضاعة لوقت ثمين، أربك المشهد عموما وأفقد الثقة عند البعض، والأمن والاستقرار عند البعض الآخر، وشجع آخرين وزين لهم فعلهم ومزايداتهم. * ضعف الترويكا في مستوى تقاسمها للسلطة حيث ظهر للعيان هيمنة فصيل دون آخر في مستوى القرار والتنفيذ. حيث هيمنت النهضة وغاب التكتل ومات المؤتمر! فالتكتل تغيب عن المشهد كلية ولم نعرف له عنوانا سوى مقعد رئيسه في المجلس التأسيسي! وانسحب المؤتمر بضجيج وصخب يضمد جراحه بعد انفراط عقده وتفتت إطاره، وأصبح المؤتمر مؤتمرين، ومع غياب مشروعه زاد الطين بلة بغياب إطاره. ومع هيمنة النهضة وتفردها بالمشهد معالجة وتقييما ومواقفَ وتنفيذا، أدخل البلاد في ثنائية مقيتة بين حركة النهضة من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، ودخلت على الخط الأيديولوجيات والمزايدات وحسابات الماضي القريب والبعيد. إن تونس ملك الجميع، ونجاحها مسؤولية الجميع، وكل فرد ومجموعة تحمل على عاتقها هذا الهمّ الأكبر، وليس لنا جميعا إلا خيار واحد بين خيارين ننجح أو ننجح مهما تعددت العناوين واختلفت المقاربات، وحكمَ طرف دون آخر. إن الأخلاق والقيم رغم استبعاد البعض لها في المشهد السياسي هي الملاذ والإطار الذي يمكن أن يحمي هذه الثورة من السقوط والتردي، ومن هذا الباب العالي يمكن أن يصبح الفعل السياسي مجردا من كل طموح هابط أو بناء خارج حب الوطن والعمل الجاد والمضني والمسؤول من أجل ازدهاره ورفاهة أهله. بقلم: د.خالد الطراولي رئيس حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي