تونس: الصباح شهدت الفترة القليلة الماضية، تطورات لافتة للنظر صلب بعض الأحزاب، ربما كانت قديمة من حيث نوعيتها وأسلوبها، لكنها جاءت في ظرفية سياسية لم يكن المرء يتوقع حصولها، سيما بعد أن شدد الخطاب الرسمي على "ضرورة أن تكون الأحزاب قوية لكي يكون الحزب الحاكم قويا"، وهي معادلة كان يفترض أن تدفع الأحزاب إلى تلمس الطريق المؤدية إلى هذه القوة، قوتها الفكرية والسياسية والحركية (الميدانية)، بالإضافة إلى حسن تنظمها وبحثها عما يجمع ويقوي داخلها، بدل ما يفرق ويضعف.. غير أن ما حصل في الآونة الأخيرة في بعض الأحزاب، يؤكد بأن "دار لقمان على حالها"، بل يكاد المرء يكرر أحد أمثلتنا الشعبية القائلة: "اللي فيه طبّة عمرها ما تتخبّى"، في إشارة إلى تكرار مثل هذه الممارسات صلب أحزابنا.. فقد قرر حزب الوحدة الشعبية مؤخرا في أعقاب اجتماع مكتبه السياسي، إحالة السيد عبد الحميد مصباح على لجنة النظام، "بتهمة" التصريح للصحافة عن مسائل غير قابلة للنشر، ومن شأنها إحداث الانشقاق صلب الحزب.. وكان السيد عبد الحميد مصباح، قد أبعد من المكتب السياسي للحزب، على خلفية مواقفه النقدية من أسلوب تسيير الحزب، وطبيعة المواقف المتخذة، وذلك بناء على رسالة كان وجهها للأمانة العامة للحزب خلال الفترة الفاصلة بين انعقاد مؤتمر الحزب واجتماع مجلسه المركزي، انتقد فيها "بعض سلوكيات خرق القانون الداخلي للحزب"، الأمر الذي اعتبر "خروجا عن الصف الحزبي"، وتم تبعا لذلك "إقصاءه بصفة ديمقراطية" كما يحلو للبعض وصفه، أي بواسطة التحالفات الانتخابية التي يعرف المتابعون لشأن الأحزاب السياسية، مطبخها والكيفية التي تتم بواسطتها.. تهمة الإصلاح والشفافية.. وكان حزب الوحدة الشعبية، قرر في وقت سابق، وبالتحديد خلال اجتماع المجلس المركزي في نوفمبر من العام المنقضي، طرد السيد مصطفى بوعواجة، عضو المكتب السياسي للحزب، وعضو مجلس النواب من "حضيرة" الحزب، بسبب نقده لقيادة الوحدة الشعبية، ولأسلوب إدارة الحزب، خاصة فيما يسميه ب"الإخلالات التنظيمية والمالية"، والعلاقة بين الهياكل المركزية والجهوية للحزب، بالإضافة إلى تشكيله مجموعة صلب الحزب، نعم صلب الحزب، تحت عنوان "الإصلاح والشفافية"، كانت تعتزم التحول إلى خط إصلاحي من داخل الوحدة الشعبية بالذات وليس من خارجها، ولكن قيادة الحزب تعاملت مع هذا الموقف بنوع من "التشنج"، فاعتبرته "قد وضع نفسه خارج الحزب"، بموجب هذه "المبادرة"، وتم التعامل معه بالفعل، على أساس كونه خارج الحزب.. سابقة غير متوقعة.. من ناحية أخرى، وفي سابقة هي الأولى من نوعها صلب الحزب الديمقراطي التقدمي، أثارت انتباه عديد المراقبين، وجه الحزب "انتقادات" إذا صحت تسميتها كذلك، بل حبذا لو كانت ارتقت إلى المستوى النقدي والجدلي إلى مقال أصدرته "الصباح" حول الموقف من تحالف 18 أكتوبر.. لا يهمنا هنا مؤاخذات الزملاء في صحيفة "الموقف"، على بنية المقال أو حيثياته أو صحة بعض الأخبار الواردة فيه من عدمها، بقدر ما يهمنا الجانب السياسي والجدلي من الانتقادات، ومحاولة إدراج ما كتب ضمن سياق "المؤامرة على الموقف وعلى الديمقراطيين في البلاد"، وهذا ما يحيلنا إلى ثقافة خطيرة تتعامل مع النقد بعقلية "التجريم" ولغة "المؤامرات"، وهو ما لا يقدم بالحياة السياسية ولا بالصحافة وحرية التعبير في شيء.. لغة قديمة جديدة.. ولا شك أن هذه الممارسات صلب الأحزاب، تطرح أكثر من تساؤل: فهل ضاقت صدور الأحزاب السياسية إلى هذا الحد الذي لم تعد قادرة على الإنصات إلى الرأي المخالف داخلها، بحيث تستخدم "ماكينة الطرد" و "التجميد" أكثر من آليات النقاش والحوار التي أسست من أجلها؟ ومتى تكف أحزابنا عن اعتبار أي خلاف في الرأي داخلها، من قبيل "الخروج عن الملة الحزبية"، و "تمزيق الصف الحزبي"، و "انتهاك حرمات الحزب" و"محاولة بث الانشقاق داخل التنظيم"، وما إلى هنالك من العبارات التي تحيل على عهود محاكم التفتيش؟ إن الأحزاب مؤسسات سياسية في البلاد، تؤطر المناقشات الوطنية، بل إنها مسؤولة عن حماية الرأي المخالف من الاندثار، وهي الحاضنة للجدل والحوار، وليست مؤسسات لرياض الأطفال، تنتج نسخا متشابهة في الشكل والمضمون الفكري والسياسي، وكل من يخالف قيادتها، ينعت بأوصاف "المارق" و"الخارج عن الصف".. إنها لغة الضعيف وغير القادر على المجادلة والحوار، وغير المستعد للمعارك الفكرية، التي لا يمكن إلا أن تنتج وتضيف للأحزاب والبلاد، لأنها الحصن الواقي للجسم الاجتماعي والسياسي، وليست فيروسا يخشى منه إطلاقا.. إن الأحزاب القوية والفاعلة في أي بلد، مهما كان اسمه أو تقاليده الحزبية والسياسية، هي تلك التي تكابد من أجل أن تبقى شجرة الرأي المخالف، مثمرة ويانعة ومنتجة، أما غياب الاختلاف في الرأي، فإنه يحيل على وضع غير صحي، وضع صحراوي، لا لون فيه ولا طعم ولا رائحة، على حد تعبير الشاعر الفلسطيني، محمود درويش.. فهل ترتقي بعض أحزابنا إلى هذا المستوى من التفكير والممارسة قبل أن تجد نفسها "خارج السياق الاجتماعي والسياسي"، مثلما وضعت بعض كوادرها ومسؤوليها "خارج الحزب"، أو اعتبرتهم كذلك؟؟