إذا تعود جميعنا على الاطلاع على الساحة السياسية عبر النوافذ الإعلامية المتعددة من قنوات تلفزية ومحطات إذاعية وصحافة مكتوبة ووسائط الكترونية وغيرها فإننا ارتأينا أن نطل على صدى «النبض» السياسي من خلال نافذة جديدة في أماكن مجهولة بالنسبة لفئات كبيرة من المجتمع. إنّها الحانات التي حاولنا رصد تفاعلات حرفائها من خلال جولة عايشنا خلالها أجواء هذه الفضاءات واطلعنا على مواقفهم ورؤاهم وتقييماتهم للساحة السياسية. بداية «زياراتنا» انطلقت بحانة شعبية وسط العاصمة دخلناها مساء على إيقاع الضجيج الذي لا يحتمل حيث كانت تغلي كالمرجل وكل يغني على ليلاه ولا تسأل عن الاكتظاظ باعتبار أن الواقف أكثر من الجالس وبين لحظة وأخرى يصدع أذنيك صوت أحد الباعة «فول..فول».. «لوز..لوز» وغيرها من «الإيقاعات» المعهودة في تلك الأماكن. «على كل لون يا كريمة» وسط هذه الأجواء الصاخبة تمكنت صحبة زميلي ب»تدخل» من أحد النادلين من إيجاد مكان بزاوية حادة تنقطع فيها الأنفاس من جراء سحابة دخان تعلو وسط الحانة أمام الكم الهائل الذي ينفثه أغلب الحرفاء. لم يكن خافيا أن الحديث في السياسة في الحانات عموما أصبح بعد الثورة طاغيا على المواضيع التي يتداولها الناس بمختلف أوضاعهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية وهو أمر بديهي بعد تلك الحقبة السوداء التي كان فيها الجميع تحت «المجهر» تسجل فيها حركاتهم وسكناتهم حتى في مثل هذه الأماكن التي تحولت اليوم إلى ما يشبه المنتديات السياسية يدلي فيها كل حريف بدلوه. بل أن وتيرة النقاشات أحيانا تحتد إلى حد الخصام خاصة أن الحرفاء في مثل هذه الأماكن «على كل لون يا كريمة» حيث تختلف انتماءاتهم السياسية من اليمين إلى اليسار. «حرام تحيّرلي المواجع» انتظرنا دقائق معدودة وتطفلنا على احد الجالسين بقربنا حيث كان يعاقر خمرته، يغني بصوت خافت وهو يسبح في عالمه وما أن بادرناه بالسؤال عن مدى حديثه عن السياسة داخل الحانة حتى انطلق في ترديد مقطع «يزي خلي الجرح مخبي يزي.. حرام تحير لي المواجع» بصوت عال إلى حد التفت إليه اغلب الحرفاء ثم قال «خليني راني فديت ومن القهر تشويت ما تزيدوش تحيرولي مواجعي زعمة هربت من السياسة في التلفزة ومن حكايات المؤامرات والصفر فاصل وكولني ناكلك زيد تبعو في هنا.. اش يهمني في السياسة.. خبزة القاتو قسموها وانا وامثالي ديمة نخرجو شايحين والزوالي ماعندو والي لا قبل ولا توة ولا مع اللي جاي.. خليني نروي عطشي وننسى همومي.. قالوا هانا عملنا ثورة.. وينهي.. ما عندي ما ريت كان «الفلس» زاد.. والجيوب مثقوبة». «حالة البلاد ما تفرّحش» التفت الينا زميله وقال «حالة البلاد ما تفرحش» اعتصامات.. اضرابات.. اقتصاد متدهور.. وانفلاتات امنية.. وكل يبحث عن مصلحته.. ولا ادري من يفكر في مصلحة هذا الوطن ومستقلبه.. قلبي ينزف دما على البلاد». وتدخل حريف ثالث باندفاع شديد «البلاد حرقوها يحرق قلوبهم.. كل يوم اسمع بحرائق جديدة من طرف جهات مشبوهة وبعد أن تضررت منها مراكز امنية ومؤسسات عمومية كان الدور على مساحات زراعية وغابية.. وعلى المصالح الامنية أن تضرب بقوة.. بالله سلم لي على علي لعريض وقلو راهو قليبي مريض». كهل تجاوز الخمسين من عمره ربما لم يعجبه فحوى نقاشنا وحكمت عليه الخمرة أن ينهض من مكانه ويتوجه إلينا صائحا بصوت غلبت عليه «لكنة» «لعنة الله على السياسة والسياسيين والإعلام والإعلاميين الذين لم نربح منهم إلا النفاق واللعب بالبلاد من اجل مصالحهم لان لكل طرف سياسي أو إعلامي أجنداته الخاصة.. و»المواطن الزوالي هو اللي مشى في الساقين».. علاش ما يرحموناش ويرحموا البلاد.. حتى انتخبت النهضة في بالي يخافو ربي لكني ندمت اليوم لان ما ثماش حتى حزب صادق يستحق صوتي وصوت غيري؟؟». «القلوب معبية» كان يبدو جليا أن القلوب «معبية» كما يقال وكل حريف يعبر على همومه ووجعه الداخلي على طريقته إلى حد تلامس فيه اغلب النقاشات المجال السياسي من زواياه المتنوعة فهذا ينتقد أداء الحكومة وعجزها على حل معضلة التشغيل وهو الذي مازال يبحث عن فرصة عمل وآخر ركز اهتمامه صحبة أصدقائه على عدم وضوح الرؤيا بشأن الانتخابات القادمة وحلقة ثالثة وجهت سهامها نحو المجلس التأسيسي لأنه لم يكن في مستوى انتظارات الشعب على حد تعبيرهم خاصة بعد الزيادة في اجر النواب وهي مسألة «يلوكها» اغلب الحرفاء إلى حد أن احدهم قال «الثورة اشتعلت شرارتها من اجل الكرامة والحرية لكن «الزوالي» مازال يعاني من التهميش والحريات الفردية تتهددها عديد المخاطر بعد ما فعله السلفيون طوال المدة الماضية في عدد من المدن ومهاجمتهم لبعض النزل والحانات ومحلات بيع الخمور. ولابد انه على الحكومة أن تقوم بدورها في ضمان امن المواطن لأنه يظل حرا في اختياراته الشخصية وهو أمر يكفله القانون. وأؤكد واكرر أننا لن نساوم في الدفاع عن حرياتنا مهما كلفنا من تضحيات». الضبابية وزيادة الاستهلاك بعد اقل من ساعتين غيرنا المكان في اتجاه حانة من صنف آخر فكانت الأجواء أقل صخبا وضوضاء وكان الاختلاف باديا على نوعية الحرفاء الذين بدوا أكثر هدوءا رغم بعض الفوضى التي كانت تعم المكان بين فترة وأخرى بسبب إفراط البعض في الشرب. بل أن أكثر من حريف ذهب إلى حد التأكيد على أن حالة الضبابية التي تعيشها البلاد على اغلب المستويات أدت إلى زيادة استهلاك المشروبات الروحية بشكل جعل حمادي بوصبيع يقول مؤخرا في حوار صحفي «لم نعد قادرين على تغطية استهلاك الجعة» في إشارة واضحة إلى عديد الدلالات من وجهة نظر الكثيرين داخل هذا الفضاء. رسالة إلى راشد الغنوشي ما إن علم بهويتنا وموضوع تحقيقنا حتى انضم المدعو «ن.ر» إلينا وشرع في تحليل الأوضاع السياسية على طريقته بأسلوب فيه الكثير من المشروعية. انتقد أداء «الترويكا» الذي اعتبره مخيبا للآمال وعبر عن غضبه من المعارضة التي نقف يوميا على تشتتها وتصدعها وتفتتها ووجه سهام نقده للصراعات السياسية والجدالات العقيمة التي تشهدها الساحة. ورجانا توجيه رسالة مقتضبة إلى الشيخ راشد الغنوشي مفادها ضرورة ابتعاد حركة النهضة عن الحسابات الانتخابية في مسائل مصيرية مضيفا «تكفير السلفيين وتهديداتهم للبعض بالقتل وترهيبهم ووعيدهم لا يحتمل سياسة المهادنة وإنما اتخاذ موقف صارم حيالهم وفك الارتباط معهم لأننا «فدينا» من سياسة «الحسابات» وعلى الحكومة أن تفكر في مصلحة الوطن قبل كل شيء». «الحقيقة في الخمر» غير بعيد عنه صادفنا الصحفي الحبيب الميساوي داخل هذا المكان الذي وان شده الموضوع فانه نظر إليه من مقاربته الخاصة وقراءته الذاتية التي تنبني على أن الحديث في السياسة في الحانات يبدو الأقرب صدقا في تحليله لمجمل شواغل واهتمامات المواطن التونسي بقطع النظر عن تكوينه وانتمائه ووضعه الاجتماعي وربما الحانات فضاء يعوض في الكثير من الأحيان فضاءات النقاش العام التي تفتقر إليها بلادنا وقد توفر طبيعة المشروبات المتداولة لهاته الأماكن نوعا من الجرأة. وأكد انه على عكس ما يدعى بوضوح في الرؤية مما يحول العديد من رواد الحانات إلى محللين سياسيين قد يتفوقون على أعتى الدكاترة ممن نراهم على شاشات التلفزيون ونستمع إليهم على المحطات الإذاعية وهو أمر بديهي لان أغلبية حرفاء الحانات الشعبية من الطبقات الكادحة التي تعي مشاكلها بل وتدعي أكثر من ذلك باقتراح بدائل وحلول قد لا يراها وزير ونائب في التأسيسي وفي المحصلة وكما يقول المثل اللاتيني «veritas in vino» وهو ما يعني أن الحقيقة في الخمر. «طبخات» سياسية بعد اقل من ساعتين حولنا وجهتنا من جديد لكن محطتنا هذه المرة كانت حانة بنزل فخم يبعد بعض الكيلومترات فقط على وسط العاصمة وبإلقائك لنظرة منذ دخولك للمكان تلاحظ تغير ملامح الوجوه التي تظهر عليها «البحبوحة» ويشدك الحوار الهادئ وحالة الهدوء التي تطغى على المكان عكس بقية الفضاءات. والمعروف أن بعض «الطبخات» السياسية يتم إعداد جوانبها وتفاصيلها الصغرى في زوايا من مثل هذه الأماكن التي يرتادها الكثير من السياسيين. دقائق فقط بعد أخذنا لأماكننا بدأنا نلتقط بعض العبارات التي يصلنا صداها من الأماكن المجاورة بما أثبت لنا أن المسائل السياسية تكاد تكون «طبقا» رئيسيا على الطاولة لعلاقتها بالوضعية الراهنة للبلاد. «نطاح» الأكباش سألت أول حريف كان يجلس قربنا عن مدى علاقته بالسياسة فأجاب دون تردد «عن أي سياسة تسألني..عن الصراع بين الحكومة والرئاسة الذي أثار الكثير من الجدل أم «نطاح» الأكباش بين السياسيين إذ أننا نصحو كل يوم على خلافات جديدة ساهمت في تأجيج الأجواء في ساحة تعاني بطبعها من الاحتقان.. الحقيقة أمقت السياسة لكني وجدت نفسي مجبرا ومضطرا على التعايش معها.. وما يؤسفني فعلا هو الناخب الذي أغدقوا عليه الوعود وأغرقوه في الأوهام وبمجرد تحقيق هدفهم في الوصول إلى الحكم أصبحوا يتصارعون على الكراسي وتناسوا الذين منحوهم أصواتهم». وتدخل هنا زميله قائلا «كلهم «يلعبون» على الحبال ويعزفون على الأوتار الحساسة والأقوال أما الأفعال «يجيبها ربي» التناقض وعدم الانسجام يظهر بين الحين والآخر بين الرئاسة والحكومة.. وما يؤلمني فعلا أن أهداف الثورة لم يتحقق منها إلى حد اليوم ما يتطلع إليه التونسي.. أين القناصة؟.. لماذا لم تفتح ملفات الفساد الحقيقية؟.. ولماذا ظلت بعض الملفات الحارقة تراوح مكانها؟..» ولم يخف صديقه «ك- ب» استياءه من الوضع السياسي في تونس برمته ليس لأداء الحكومة المتذبذب أو «طلعات» الرئيس المؤقت وإنما لتدني المستوى الأخلاقي واستفحال ظاهرة السب والشتم والتشويه والتنابز بأسلوب «مقزز» أحيانا. واضاف «رغم أننا في ساحة تعاني من الاحتقان فان البعض لا يخجل من صب الزيت على النار.. لقد سقطت الأقنعة وظهرت كل الوجوه السياسية على حقيقتها.. «يزينا من النفاق والانشقاق.. والشعب راهو فاق».