لأشهر خلت و في مناسابات متكررة عندما اتصلت بسفارتنا في واشنطن متسائلاعن موعد و أماكن انتخابات المجلس التأسيسي أعلمت أن الإعداد جار لإحداث نقاط اقتراع في المدن الكبرى الأمريكية لإتاحة الفرصة لجاليتنا التونسية للمشاركة بكثافة في هذا العرس الإنتخابي. و قد أبلغني عون السفارة أن مدينة "شيكاغو"هي من بين النقاط المقترحة لإحداث مركز اقتراع فاستبشرت خيرا إذ لا تفصلنا عن مدينة شيكاغو سوى أربعمائة كيلومتر فأخبرت الأهل و الأولاد عن برنامج رحلة العائلة المرتقبة يوم الإقتراع و قضاء ليلة بأحد الفنادق قبل الإدلاء بأصواتنا. و قبل حوالي أسبوع من الموعد التاريخي اتصلت مرة اخرى بسفارتنا في واشنطن للتأكد من المواعيد المحددة و عناوين مراكز الإقتراع بالتفصيل. و كم كانت دهشتي كبيرة عندما علمت أن مركز مدينة شيكاغو عاصمة ولاية "إلينوي" قد ألغي من الجدولة و أن ست مراكز اقتراع فقط برمجت و هي موزعة على أربع ولايات ساحلية (واشنطن, نيويورك, كاليفورنيا, و فلوريدا) بالولايات المتحدةالأمريكية المترامية الأطراف. مما يعني أن الجالية التونسية الموجودة بولاية "إلينوي" و ضواحيها كما هو الحال بالنسبة لي قد حرمت من الإنتخابات أو أن عليها أن تجشم عناء قطع مسافات تقدر بالاف الكيلومترات للإدلاء بأصواتها. فمثلا بالنسبة لي أنا و عائلتي متواجدون بولاية "إيوا" المتاخمة لولاية "إلينوي" مما يجعل مركز "نيويورك" الذي يبعدنا بأكثر من ألف و خمسمائة كيلومتر أقرب مركز لنا! و بذلك ليس أمامي سوى حلين إما الرضوخ لقرار السفارة (أو الهيئة العليا للإنتخابات أو كائنا من كانت تلك الجهة) التي قررت شطب مركز شيكاغو من الأماكن المخصصة لانتخابات المجلس التأسيسي في أول محطة تاريخية بعد ثورة تونس التي هزت العالم و إما الإصرار على ممارسة حقي و واجبي الذي انتظرت قرابة ربع قرن لأنعم به من جديد بعد أن اخطتفته مني و من شعبنا يد المخلوع و زبانيته و المتحالفين معه على امتداد السنوات العجاف التي نكب بها شعبنا و أمتنا.و بعد تفكير و مشاورة مع أم براء و الأولاد قررنا أن اسافر لوحدي إلى ولاية "نيويورك" في أقرب رحلة جوية فليس بوسع اليد أن نسافر كلنا بالطائرة أو أن نقطع مسافة ألف و خمسمائة كيلومتر بالسيارة ذهابا و إيابا في ظرف يومين أو أقل. جاء موعد الرحلة حيث قضيت حوالي ثمان ساعات بين المطارات و في الفضاء قبل أن أدرك مقر بعثة تونس الدائمة بالأمم المتحدة ب"مانهاتن" من ولاية نيويورك حيث المركز الذي شددت له الرحال لأدلي بصوتي و مشاعر شتى تتقاذفني. شعور بالفرح المشوب بالمرارة! فكم كنت أتمنى أن يكون بجانبي أخي و صديقي الشهيد أحمد العمري رحمه الله الذي اغتالته يد المخلوع الإجرامية في بهو المدرسة القومية للمهندسين بتونس يوم الثامن من ماي سنة الف و تسعمائة و واحد و تسعين على مرأى و مسمع مني و من كل الطلبة الذين ظنوا أن بهو الجامعة مكانا مقدسا لا يمكن ليد الغدر أن تمتد إليه بالقتل و الإبادة. ثم جال بخاطري موكب الشهداء الآخرين الذين عايشتهم فترة الثمانينات الذهبية كالشهيد عثمان بن محمود الذي أغتيل يوم الثامن عشر من أفريل سنة الف و تسعمائة و ست و ثمانين بعد مطاردة من البوليس بحضور المخلوع نفسه حينها عندما كان وزيرا للداخلية وصولا إلى مشهد الشهيد عمر الحداد ذو التسعه عشرة ربيعا من حي البستان بصفاقس الذي اغتالته يد الظلم يوم الثاني عشر من جانفي من السنة الجارية (سنة الفين و إحدى عشر) يوم المسيرة الحاشدة التي نظمها الإتحاد العام التونسي للشغل ذلك اليوم و التي انتهت بحرق مقر التجمع بمدينة صفاقس و كان لي شرف النزول فيها. و الأكيد أن هناك مئات الشهداء الأخرين معظمهم في مقتبل العمر الذين سقوا بدمائهم أرض تونس الطاهرة لننعم نحن بهذا اليوم الأغر. ثم جال بخاطري مشهد انتخابات سنة الف و تسعمائة و إثنان و ثمانين و كانت تلك أول عهد لي بالإنتخابات و كنت وقتها شابا يافعا بالمعهد الثانوي و قد كانت حركة الديمقراطيين الإشتراكيين ذات الورقة الخضراء بقيادة أحمد المستيري حينها المنافس الرئيسي للحزب الإشتراكي الدستوري (بقيادة بورقيبة) ذو الورقة الحمراء. كنت و الكثير من الشباب بمختلف ميولاتنا السياسية ندعو للتصويت للورقة الخضراء نكاية في حزب بورقيبة الذي جثم على صدر البلاد لأكثر من ربع قرن دون أن يتزحزح. و ما زلت أذكر في ما أذكر أن رئيس الشعبة الدستورية بالمنطقة الريفية بالعوابد من ولاية صفاقس أين كنت أقطن حينها حاججني أمام أهالي العوابد فخاطبني بلغة التحدي و اللوم في آن واحد قائلا "تريد أن تجعل من منطقتنا نقطة سوداء في أعين المسؤولين و كوادر الحزب (يقصد حزب الدستور) فنحرم من كل المرافق و نصير من المغضوب عليهم على عكس المناطق المجاورة التي ستنعم بالمشاريع و رضاء المعتمد و الوالي? اغرب من هنا فأنت لازلت صغيرا لا تفقه بالسياسة شيئا" و لست أدري كيف ألهمني الله برد حينها أفحمه و أنعش الحاضرين. فقلت له "عن أي مشاريع تتحدث? فحتى التيار الكهربائي و الطريق المعبدة لم تصل إلينا على عكس المناطق المجاورة و كل ذلك بسببك أنت و من معك إذ أصبحتم لعبة طيعة في يد المعتمد و مسؤولي الحزب. ثم إنه عكس ما ذكرت أنت تماما فلو صوتت منطقتنا للورقة الخضراء فسيقرأ لكم إطارات الدولة ألف حساب و سيهرعون إليكم بالمشاريع لإرضائكم و جلبكم إلى حضيرة الحزب من جديد" فانفجر الحضور ضحكا و انضم الكثير منهم للتصويت للورقة الخضراء. و لازلت أذكر أيضا أنه عند فرز الأصوات الذي تم بحضور المواطنين بالمدرسة الإبتدائية الوحيدة بالمنطقة كان التبسم "الماكر" يملأ وجوه الحضور نكاية في رئيس الشعبة و فريقه من البورقيبيين حيث كان اللون الأخضر غالبا على المكان. و علمت في ما بعد من أناس ثقاة أن نتائج الإنتخابات زورت في مقر المعتمدية و أصبحت الأوراق الخضراء حمراء بفعل قدير! فكنا بعد ذلك نتندر كيف أن صناديق الإقتراع في تونس مثل الحناء تدخلها الأوراق خضراء فتخرج حمراء. و عندما زورت الإنتخابات على مستوي وطني (ألم يعترف الباجي قائد السبسي بذلك في حواره مؤخرا مع مراسل الجزيرة أحمد منصور؟!) فقدنا الشهية في الإنتخابات و خفت بريق حركة الوطنيين الدميقراطيين بعد التفات بورقيبة إليها بالهرسلة و التدجين و الإختراق إلى حين مجيئ سنة ألف و تسعمائة و تسعة و ثمانين عندما جاء المخلوع على بساط طائر من الوعود الكاذبة من مثل "لا ظلم بعد اليوم" و "لا رئاسة مدى الحياة" فأخذت الأوراق المستقلة ذات اللون البنّي و التي يدعمها الإسلاميون حينها مكان الأوراق الخضراء و صوت الناس لها بكثافة فكانت تلك ثاني مرة أتوجه فيها للإقتراع .و الكل يعلم بقية الحكاية الأليمة حيث زورت الإنتخابات مرة اخرى و استعملت قائمات الورقة البنية و مناصروها و الحملات الإنتخابية ككنز للمعلومات للقضاء على الإسلاميين و تجفيف ينابيع التدين في تونس عوض الإعتراف بنتائج الإنتخابات و تكريم الفائزين فيها بتشكيل الحكومة و قيادة البلاد. ثم عم البلاد ليل دامس من الظلم و القهر و السجن الكبير لشعب بأكمله فقدنا معه أي أمل في التغيير الحقيقي فكان ذلك أخر عهد لي بالإنتخابات على أرض تونس. أما اليوم و في هذه اللحظة بالذات فإني أشعر بسعادة طفولية لا مثيل لها فأخيرا حطت الطائرة بمطار "ج ف ك" بنيويورك فاستأجرت سيارة و انطلقت بتلهف إلى مركز الإقتراع لأدلي بصوتي الذي أجبرت مثل الملايين من التونسيين على دفنه بصدري لعشرات السنين إلى أن جاء هذا اليوم التاريخي الذي بعث في صوتي المدفون الحياة من جديد بفضل تضحيات الشهداء و الأجيال التي سبقتهم. بعد حوالي نصف ساعة من السياقة في شوارع نيويورك المزدحمة أودعت السيارة بمستودع عمومي و ترجلت للوصول إلى مركز الإقتراع حيث كانت الساعة تشير إلى قرابة الثالثة و النصف بالتوقيت المحلي. كانت الأجواء احتفالية حيث أعلام تونس تغمر المكان و الناخبون قد اصطفوا بانتظام في حين قام المسؤولون عن إدارة الإنتخابات بواجبهم على أكمل وجه باستقبال الناخبين و التأكد من هوياتهم و شرح العملية الإنتخابية. اقتربت من أحد المسؤولين (و الظاهر أنه من المتطوعين) و سألته عن السبب وراء إلغاء إحداث مركز للإقتراع بشيكاغو فأعلمني أنه "خاض" عناء مريرا خلال الأشهر الماضية مع الهيئة العليا للإنتخابات حتى أنه اقترح تحمل كل المصاريف على حسابه الخاص على حد ذكره و لكن لا حياة لمن تنادي. فالمراكز الإنتخابية التي كانت مقررة بولايات "فيلادلفيا" و "دنفر" و "إيلانوي" وقع إلغاؤها بدعوى الضغط على المصاريف! فلمصلحة من يقع حرمان الآلاف من أبناء تونس بالخارج من الإدلاء بأصواتهم؟ سؤال يبقى مطروحا ينتظر الإجابة. هناك خوف طفولي بداخلي إذ قد لا يقع احترام إرادة الشعب هذه المرة أيضا (ربما للتجربتين الوحيدتين التين صوت فيهما و التين انتهتا بالتزوير!). أسأل الله أن يكون شعوري بالخوف في غير محله. أما الآن و قبل رحلة العودة بعد سويعات فسأبقى و تونس و الأمة العربية و الإسلامية على أحر من الجمر ننتظر الإعلان عن نتائج الإنتخابات في الأيام القليلة القادمة. و مهما كانت ملابسات العملية الإنتخابية و مهما كانت الجهة التي ستفوز فالأكيد أن الرابح الأول فيها هو الشعب التونسي و كل أشقائة و أصدقائه من الشعوب الحرة التي ناضلت و تناضل من أجل ساعة الخلاص و على رأسها الشعب السوري البطل و الشعب اليمني المكافح. فألف رحمة لروح الشهيد محمد البوعزيزي و كل الشهداء و المناضلين الأحرار الذين غيروا بدمائهم الزكية وجه المنطقة إلى غير رجعة