هناك حاليا بعض خيبة الامل لدى أبناء الثورة إزاء السلطة الحاكمة تغذيها هذه "اللخبطة" في الاداء الحكومي و"الرئاسي" وهذا التضارب والتناقض والتجاذب في الأقوال والقرارات النابعة دون شك عن قلة تجربة إذ قذفت الثورة فجأة بمناضلين قضوا القسم الأكبر من حياتهم في غياهب السجون أو في المنفى إلى سدة الحكم دون سابق إعداد أو استعداد أو دربة. إلا أن الخطير في الأمر هو أن أعداء الثورة اقتنصوا فرصة الفوضى الحالية، فرفعوا رؤوسهم من تحت الرماد و"رجعت فيهم الروح" فبدأوا يعملون معاولهم في جسد الثورة، متزعمين بخبث ودهاء شديدين ثورة مضادة حقيقية بدأت تتضح معالمها من يوم لآخر. ولكن قبل المضي قدما في التحليل لابد من تعريف مفهومي: أبناء الثورة وأعدائها. إن أبناء الثورة، هم كل من لم يتورط مع النظام البائد بأي شكل من الأشكال وكل من حاربه وناله من عسفه الشيء الكثير أو القليل، إنه كل من آمن ويؤمن إلى اليوم رغم خيبات الثورة بأن نظاما كذلك الذي انهار في بلادنا هو أسوأ ما يمكن أن يبتلى به شعب من الشعوب وأنه عار وأي عار أن يقع التحسر عليه أو حتى التهوين من خطاياه. أما أعداء الثورة فهم أولا وآخرا كل من انتفع وبأي شكل من الأشكال بفتات موائد النظام السابق وكل من تجندوا للدفاع عنه وانخرطوا في منظومة قمعه وإرهابه سواء بالقلم أو الساعد أو ب"العين" أي بالتجسس والتلصص على الآخرين إن هؤلاء جميعا مرتبطون بشبكة من المصالح ويوجدون حاليا في خندق واحد ومعركتهم واضحة وهي تأخير آلة المحاسبة وافشال الثورة وها قد تحركت آلتهم بقوة في الاونة الأخيرة، كل يؤدي فيها الدور المنوط بعهدته بدقة. إن المخطط أصبح اليوم واضحا لا لبس فيه فأزلام النظام السابق المبثوثون في المجتمع العدل المنفذ بوعزيز "بطل" رسوم معرض العبدلية مثالا من صغار المنتفعين بفتات النظام السابق (رؤساء شعب "صبابين" عمدا الخ...) يؤدون دورهم في بث الاشاعات وتوتير الأجواء مستغلين كل مناسبة لتهييج الخواطر ولإحداث الفوضى ولإرساء جو من الرعب والخوف في البلاد ولهرسلة المؤسسة الأمنية وشلها وفي نفس الوقت فإن أزلام النظام السابق في الإعلام، اضافة إلى من اقتحموا الساحة الإعلامية إثر الثورة بفضل المال القذر لأشخاص مرتبطين بعصابة البنعلية الطرابلسية يؤدون هم أيضا ب"أمانة" الدور المنوط بعهدتهم في هذه المسرحية المكشوفة في تسميم الأجواء في البلاد وفي اعداد الرأي العام للانقضاض على الثورة: فبن علي وليلاه وافراد عائلتيهما أصبحوا يكادون يقدمون اليوم كضحايا، والتجمع وأزلامه أيضا. فهناك حاليا عملية تبييض رهيبة للعهد السابق ورموزه الإجرامية تتزعمها بخبث ودهاء كبيرين "جوقة" كبيرة من وسائل الاعلام التي كرعت من المال العام طوال عهد بن علي بخبث من ذلك مثلا وما هذا إلا مثال بسيط من عشرات أو مئات الأمثلة الأخرى أنني قرأت مؤخرا مقالا يصف ب "الضحية" شخصا تولى "الصبة" على امتداد سنوات وباعترافه للشعبة التجمعية بقريته وارسل عديد الأشخاص إلى السجون والمنافي وتم اكتشاف اسمه ضمن قائمة "الصبابين" والمنافع المالية التي قبضها عند اقتحام مقر الشعبة خلال أحداث الثورة وتم تعليق هذه القائمة في ساحة القرية!! وقبلها بأيام قرأت مقالا حول أحداث بوسالم كله حنين إلى العهد البائد ولوعة على سقوطه! مع رسم صورة سوداء حالكة في نفس الوقت للفترة ما بعد الثورية وتوقعات أشد منها قتامة للفترة التي ستليها! وما يحز في النفس أكثر هو أن دولة الثورة، لا تزال تمول وإلى اليوم بالمال العام عبر الاعلانات الحكومية مثل هذه "الخرق القذرة" عوض أن تفتح ملفها الأسود وتحاسبها على المليارات التي قبضتها على حساب الشعب وقوته. إن الوضع يفرض على جميع أبناء الثورة سواء أكانوا من اليمين أو اليسار ومهما كانت اختلافاتهم الايديولوجية أن يحددوا الأوليات الحالية معا. فانه ليعز على النفس، وعلى كل مؤمن بالثورة أن يراها تأكل أبناءها وأن يرى رفقاء الأمس، من كانوا في خندق واحد ضد بن علي "يتقاتلون" اليوم بطريقة أو بأخرى مفسحين المجال لأعداء الثورة ليلعبوا كما شاؤوا. إن الصراعات والتجاذبات حول الهيئة الوقتية للقضاء العدلي مثلا بين جمعية القضاة ووزارة العدل أو حول الهيئة الوطنية لإصلاح الاعلام أو هيئة الانتخابات أو التجاذبات حول صلاحيات رئاستي الجمهورية والحكومة ما كان لها أن تقع في مثل هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا فتسيء للثورة ورجالها وتضعفهم أمام القوى الهائلة والخبيثة للثورة المضادة التي أقلع قطارها ومر إلى "السرعة الخامسة". إن رفقاء الأمس، مدعوون إلى عدم التفويت في رصيدهم النضالي وعدم إضاعة الفرصة على بلادنا في القطع نهائيا مع منظومة الدكتاتورية والفساد وذلك يمر حتما عبر تحديد أولويات المرحلة وفي مقدمتها "كنس" كل من كانت لهم ارتباطات مشبوهة مع النظام البائد من الساحة السياسية والصحفية ومن هياكل الدولة جميعها وإرساء آليات المحاسبة وأيضا السعي لاستتباب الأمن بالوسائل القانونية ولا شيء غيرها ولو كانت موجعة وعلى القضاء أن يتحمل مسؤوليته في المعركة وينفذ القوانين على الجميع دون خوف أو وجل مراعيا مقتضيات المرحلة والمصالح العليا للمجموعة. إن ملامح الثورة المضادة بدأت تتضح وعلى أبناء الثورة ومن كانوا في خنذق واحد أثناء سنوات الجمر أن يحموها من أعدائها باتحادهم مرجئين خلافاتهم الايديولوجية والمذهبية إلى ما بعد.