قدم المخرج التونسي مختار العجيمي في الفيلم الوثائقي «المسعدي .. ساحر الوجود» الذي وضع له السيناريو وتولى التنسيق لإنجازه الدكتور محمود طرشونة، عملا نوعيا على غاية من الإتقان والجمالية في الشكل والمحتوى راوح فيه بين الرواية والتوثيق على طريقته. كان الفيلم ومدته 52 دقيقة ينطق حيوات تحوم حول حياة الأديب الراحل ومنجزه الفكري والأدبي والإنساني.. ليحملنا من خلاله المخرج إلى رحلة خاصة في «كون» المسعدي اصطفى أركانه ورؤى ومواقف بعض من فهم كنهه، بلورها في الجانب التوثيقي، حيث تمثلت في شهادات لأدباء وسياسيين ومن عاصروا محمود المسعدي وعايشوا إبداعاته من تونس وخارجها، على غرار توفيق بكار والشاذلي القليبي وأحمد بن صالح ومحمد عبد المطلب وجمال الغيطاني وبطرس غالي وغيرهم.. وكانت الشهادات مراوحة بين المواقف والآراء الخاصة تجاه الراحل، وبين قراءات في مآثره الأدبية والفكرية، لنستحضر في الفيلم ومن خلال تلك الشهادات اعترافات بقيمة وأهمية ما قدم الرجل لإنسان في أبعاده المكانية والزمانية.. لأنه كان نقابيا ومناضلا سياسيا ومدافعا عن حقوق الإنسان ومنتصرا للعلم والمعرفة ولحريات الفكر والإبداع والعيش.. لتتعداه إلى حدّ تدويل دوره على مستوى عالمي نظرا للأدوار الكبيرة التي قام بها في إطار نشاطه الإنساني الداعم للحريات وعضويته في منظمات إقليمية ودولية، من بينها مجمع اللغة بالأردن والمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، أو ضمن هياكل ومنظمات وأحزاب وطنية في النضال ضدّ المستعمر ومن أجل تحرير الإنسان التونسي.. إذ عمد مختار العجيمي إلى توظيف المواقف والشهادات على نحو شكلت عناصر مكملة للوثيقة أو الشخصية التي نجح في التوثيق لها. وعلل الدكتور محمود طرشونة التركيز على الكم النوعي من الشهادات، بعد العودة إلى التسجيلات بالإذاعة والتلفزة التونسية والحصول على كم كبير من التسجيلات بالأبيض والأسود أو بالألوان، ولكن كان الاقتصار حسب رأيه على اختيار ما ينهض بالغاية والهدف الأساسي للفيلم. لذلك لم يقتصر المخرج على الشهادات التي تعدد مناقب ومحاسن محمود المسعدي وتمجد دوره وخصاله، بل استحضر ضديدها، منها أن أحدهم اتهمه بالعلمانية وحمله مسؤولية غلق جامع الزيتونة كمؤسسة تعليمية، ليردف الشهادة بأخرى من إحدى قريباته تؤكد على قوة إيمان الراحل وتميزه الخلقي، نظرا لأنه تربى ونشأ في وسط عائلي متدين بتازركة التابعة لولاية نابل، وكان والده الذي يشتغل عدل إشهاد أحد أئمة الجهة. تجسيد المسعدي في شخصيتين أما الجانب الروائي في الفيلم الوثائقي الذي جسد إبداع المخرج تجلى بالأساس في سيناريو اللوحات المجسدة في مشاهد مسرحية، أو في رسوم متحركة سينمائية تخييلية منتقاة مستمدة من «السد» أو «من أيام عمران» و»أهل الكهف». تلاعب في صياغتها المخرج باعتماد تواتر الأزمنة وتنوع القضايا الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والإنسانية، كانت مشغل الأديب الراحل وديدنه في مسعاه لنحت عوالم وأفكار نهل منها الآخرون، ولا تزال موضع بحوث ودراسات وجدل في أوساط العلوم والفكر والسياسة، لعل أبرزها معطى توظيف كل الفنون خاصة أنه كما قدّم في بعض الشهادات «لا يعترف بالتفريق بين الأجناس الأدبية بل إن كتاباته تَعَايش بين السرد والمسرح والنثر».. فكان الفيلم كذلك شاملا لمختلف هذه الأجناس والألوان من خلال توظيف المخرج لمشاهد بالأبيض والأسود وأخرى بالألوان أو من خلال تواتر الأسئلة الوجودية على الطريقة المسرحية أو في توظيفه لصور ومشاهد تخييلية أرفقها للحوارات تحيل على الكون والخلق والنهاية. فكانت شخصيتا «غيلان» في «السد» و»أبو هريرة» في «حدث أبو هريرة قال» صورتين للمسعدي في تجلياته الوجودية. لذلك يعد الفيلم «المسعدي...ساحر الوجود» وثيقة هامة ثرية بالمعاني والدلالات والمعطيات ومفتوحة لقراءات عديدة ويمكن اعتبارها مرجعا في البحوث والدراسات الفنية والأدبية والفكرية تستهوي من يشاهدها مرّة ليقبل عليها في مرات.