هل بالخطاب الذي توجه به مساء الجمعة إلى الشعب قد تمكن الدكتور منصف المرزوقي من تطويق أزمة ظلت تتفاعل منذ مدة بين مؤسستي الرئاسة والحكومة؟ هل بهذا الخطاب الذي شخص فيه عديد الاشكاليات المطروحة قد تمكن من اعادة الاعتبار لمؤسسة الرئاسة في ظل تجاذبات حادة بلغت مداها بين الرئاستين إثر تسليم البغدادي المحمودي إلى ليبيا؟ إن المتتبع للشأن السياسي في البلاد وخصوصا في ما يتعلق بمدى التناغم بين الرئاسات الثلاث يمكن أن يقف عند بعض المؤشرات والدلالات التي قد تساعد على الاجابة على مثل هذه الاسئلة الحارقة. داخل مؤسسة الرئاسة: أحاط رئيس الجمهورية نفسه بعدد من المستشارين.. فيهم من ينتمي إلى حزب الرئيس، المؤتمر من أجل الجمهورية، ومنهم من ليست له أدنى علاقة لا بالانتماء ولا بالعمل الحزبي.. ويمكن القول أن هذا الوضع قد يؤدي إلى قدر من التنافر بدل التناغم بين هؤلاء المستشارين.. وقد يمهد إلى بروز مواقف لا تعبر بالضرورة عن اتجاهات رئيس الجمهورية وقناعاته في كيفية التعاطي مع بعض الملفات الرئيسية. ومن تداعيات غياب التناسق ما حصل من تسريبات إعلامية تنتقد أداء الحكومة في الأيام الاخيرة وما تلا ذلك من استقالات داخل مؤسسة الرئاسة. وهذه حقائق يرى البعض أنها مهدت لتوتر بدا خافتا ثم استفحل وأصبح علنيا بين قرطاج والقصبة. معطى ثان له انعكاساته المباشرة على هامش التحرك السياسي المتوفر لدى رئيس الدولة يختزل في الصلاحيات المحدودة جدا المسندة له بناء على قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية والذي قلص بشكل كبير هذه الصلاحيات رغم المحاولات العديدة للمرزوقي «لتجاوزها» لاعطاء انطباع للرأي العام بأن هامش التحرك أوسع من صلاحياته المحدودة. معطى ثالث يتعلق بشخصية الدكتور المرزوقي ذاته إذ من المعروف لدى الجميع أن هذا الرجل الحقوقي الذي عبر خلال سنوات الجمر عن مواقف جريئة ضد النظام البائد وتعرض للمضايقات والنفي لم يستطع وهو في قصر قرطاج أن يتخلى عن العباءة الحقوقية.. مما أثر في رأي العديدين على ادائه كرئيس للبلاد وولد انطباعا بأن اداءه ظل مرتبكا.. وضبابيا في حالات عديدة تتطلب الوضوح والحسم السياسي. في علاقة قرطاج بالقصبة لقد راهنت النهضة ذات الخلفية الاسلامية الحزب المتحصل على أكثر المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي على حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل (الحداثيين) لتشكيل حكومة ثلاثية الاضلاع لإعطاء اشارات واضحة للداخل والخارج بأن المكاسب التي تحققت في تونس منذ الاستقلال لن يتم التراجع عنها. وهي رسائل من أهدافها طمأنة المرأة والمدافعين عن الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة والمساواة والحريات. ولكن عند تشكيل هذه الحكومة اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن حزب النهضة الذي استحوذ على أبرز الحقائب الوزارية (بما في ذلك رئاسة الحكومة ووزارات السيادة) قد قلص بشكل حاد من هامش تحرك طرفي «الترويكا» الى درجة يرى البعض أن ضلعي المثلث هما في حقيقة الأمر وبحكم الواقع أصبحا «ديكورا» في خدمة صورة الحزب الحاكم. هذه الحقائق التي وصفها المروزقي ب»التغول» في خطابه الأخير مكنت الحكومة في القصبة من مباشرة ملفات كثيرة عالقة وتقدمت فيها بعض الأشواط.. كما مكنتها أيضا من اكتساح مواقع كان يفترض التشاور بشأنها بين الثلاثي الحاكم ومنها مناصب عليا في الادارات المركزية والمؤسسات والولايات وغيرها.. وفي ذلك تحكم في شرايين الادارة. وبعد أشهر من «الزحف» ولكن بتأن وبعد ان استتب الأمر نسبيا للحزب الفائز في انتخابات 23 اكتوبر الماضي.. حلت مرحلة تقييم هذا المثلث ومدى تجاوبه مع سياسات النهضة وحساباتها المستقبلية وفي الاذهان الانتخابات القادمة . وجاء دور الاختبار لتقييم مدى التفاعل مع الحدث وتقدير مدى قوة الضلعين الآخرين. بدءا من أحداث العنف يوم 9 أفريل بمناسبة عيد الشهداء.. تنكيس الراية الوطنية في كلية الاداب بمنوبة.. موجة السلفيين الذين احتلوا عديد المساجد ومارسوا «سلطتهم» في العديد من المدن والقرى مرورا «بواقعة العبدلية» وتداعياتها على الفكر والابداع.. وصولا إلى تسليم رئيس الحكومة في عهد القذافي البغدادي المحمودي إلى ليبيا في هذا الظرف بالذات. ومر الاختبار بسلام حتى وإن رفض رئيس الجمهورية الحقوقي المنصف المرزوقي الامضاء على قرار التسليم «لأن الأوضاع في ليبيا غير مستقرة الآن» كما اهتم القضاء ببقية الملفات المطروحة والتي حسم في بعضها. ولكن أين المجلس الوطني التأسيسي صاحب أعلى شرعية في البلاد؟ هل أصبح فعلا فرعا من الأصل وهو صاحب الشرعية؟ كرئيس للمجلس يحاول مصطفى بن جعفر أن «يمسك العصا من الوسط» رغم بعض المآخذ لدى المعارضة الممثلة في «التأسيسي» حول أدائه و«تعاطفه غير المبرر مع نواب دون غيرهم». ورغم البلاغات المحتشمة التي لا ترتقي إلى مكانة حزب التكتل حول مستجدات الساحة السياسية وبعض الأحداث التي عاشتها البلاد فان هذا الحزب الذي عرف تصدعا كبيرا داخله حاول الحفاظ على قدر من الهدوء في ظل تجاذبات حادة بين قرطاج والقصبة... ولعل في الأذهان ترتيبات جديدة قد تسبق الانتخابات التشريعية القادمة. العودة إلى قصر قرطاج لقد عبر رئيس الجمهورية في خطابه كما أسفلنا عن تجاوز هذه الأزمة ويكفيه أن وزارء من النهضة قد قدموا له اعتذاراتهم بعد أن أصاب مؤسسة الرئاسة ما أصابها من «تقزيم» على خلفية تجاذبات بلغت مداها بسبب ملف البغدادي المحمودي. ويكفيه أيضا أنه فتح باب القصر لأكثر من رئيس حزب معارض ممثلا في «التأسيسي» أو غير ممثل للتشاور وتبادل الرأي حول عديد الملفات الحارقة.. وحول «التغول» أيضا. ووجه نداء في الأثناء هو عبارة عن رسالة للرأي العام في الداخل والخارج بتاريخ 5 جويلية 2012 وبعنوان «تونس إلى أين؟» فيه تجاوز للعالق من التجاذبات والملفات ليطرح سؤالين من باب الاستشراف «كم من الوقت سيدوم المخاض في تونس؟» «كيف ستكون التشكيلات الجديدة.. وهل ستكون قادرة على الثبات طويلا أم سينخرها السوس مجددا لتدخل مرحلة أزمة التدمير؟» ليجيب عن هذين السؤالين في نفس الرسالة: «يجب أن نقرر بأن ننخرط طوال الوقت في الصراع السياسي والاجتماعي من أجل تشكيل معالم مستقبل نريده ضامنا لمبادئنا ومصالحنا وأن نتحمل تبعات هذا الصراع وهي احيانا جد مكلفة». ويضيف «يجب أن نحدد ما المصلحة الجماعية وما موقع المصلحة الخاصة، قناعتي ان للمجتمعات ذكاء جماعيا يجعلها تبحث عن تحقيق المصلحة الجماعية، وتتمثل تلك المصلحة أساسا في تصريف التعايش داخل المجتمع وبين المكونات بالقدر الأقل من العنف. كما تتمثل أيضا في البحث عن سبل المحافظة أطول وقت ممكن على السلم المدني، عبر التوزيع الأكثر عدلا، لثلاثي الاعتبار والثروة والسلطة». ليطوي بعد ذلك هذه الصفحة بمصافحة قوية بينه وبين حمادي الجبالي مساء الخميس الماضي بمناسبة حفل الاستقبال الذي نظمته سفارة الجزائربتونس بمناسبة العيد الوطني الجزائري.