لا يمكن القضاء على الفساد إلا إذا كانت أجهزة الرقابة مستقلة تماما عن السلطة حذر كمال العيادي رئيس اللجنة الدولية لمكافحة الفساد من مخاطر المال السياسي المشبوه واعتبره منفذا للفساد، ودعا لضرورة أخذ هذه المسألة في تونس بعين الاعتبار وإيلائها كل ما تستحقه من عناية. وبين خلال لقاء انتظم أمس بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بالعاصمة، أن الفساد يمكن أن تساهم فيه الأحزاب السياسية بشكل كبير، وأن المال السياسي المشبوه يؤدي إلى استشراء الفساد في البلاد، ولاحظ أن الدول الديمقراطية نفسها تعاني من فساد المال السياسي، الذي بمرور الزمن يصبح من الصعب جدا اجتثاثه. وفسر أن الخطورة تكمن في تمويل الأحزاب السياسية من قبل المؤسسات، فالأحزاب تفتقد للمال ولكن لها نفوذ، والمؤسسات لها مال لكنها تفتقد للنفوذ والتقارب بين المؤسسات والأحزاب السياسية قد يؤدي الى صفقات مشبوهة. كما نبه الخبير الدولي في مكافحة الفساد إلى خطورة التمويلات المشبوهة للجمعيات وإلى علاقات الجمعيات بالأحزاب السياسية، فالأحزاب تعتمد أحيانا على جمعيات للانتشار والتوسع، ومن الضروري على حد قوله أن تكون العلاقة بين الجمعيات والأحزاب واضحة، ومن الواجب وضع آليات إضافية لمزيد مراقبة تمويل الجمعيات والأحزاب السياسية، ولاحظ أن المرسومين المتعلقين بتنظيم الأحزاب والجمعيات غير مفعلين واعتبر أن القوانين غير المفعلة وغير المنستندة على استشارات واسعة يمكن أن تساهم في فراغ خطير. وتحدث العيادي في هذا اللقاء الذي حضره عدد من رواد منتدى الثورة وأشرف عليه المؤرخ عبد الجليل التميمي عن المتطلبات الجديدة للشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد وموقع تونس منها اليوم. وذكّر أنه حسب مؤشر الشفافية فإن تونس كانت عام 1998 تحتل رتبة 33 وكانت قريبة من بلدان اوروبية ثم بدأ الترتيب يتراجع من سنة إلى أخرى إلى أن بلغ 73عام 2011 إذ استفحل الفساد وأصبح بارزا للعيان، وبعد أن كان صغيرا ويتمثل في رشاوى بسيطة تدفع لقضاء شؤون مستعجلة، أصبح المواطن منذ سنة 2004 وتحديدا مع ظهور الطرابلسية يشاهد الفساد الكبير في المشاريع الكبرى والمناقصات. لكن سقوط «الطرابلسية» لم يحل دون تفاقم الفساد بعد الثورة، وعن سؤال يتعلق بالأسباب التي جعلت تونس تخسر 14 نقطة وتتراجع بعد 14 جانفي أكثر في الترتيب، أجاب العيادي أن التراجع في الترتيب لا يفسر ضرورة بارتفاع مستوى الفساد وذلك لعديد العوامل لأن المؤشرات المعتمدة لقياس الفساد تقاس حسب «الإدراك».. أي ما يدركه المواطن في بلده من فساد ومقارنة ذلك مع بلدان أخرى لذلك فان التقارير الدولية لا تعطي صورة دقيقة عن الفساد ولا بد من التعامل مع نتائجها بحذر. وبين أن نتائج الاستبيانات المنجزة في الأنظمة الشمولية لا تعطي عادة صورة صحيحة عن مؤشر الفساد.. وإضافة إلى ذلك فإن حجم الفساد يرتفع في الأنظمة الانتقالية وخلال الوضعيات اللاحقة للثورات والنزاعات بسبب التسابق نحو تحصيل مكتسبات وبالتالي فإنه ليس بغريب على حد تعبيره أن يزيد الفساد بعد الثورة. ووفقا لاستبيانات أجريت شهري مارس وأفريل الماضيين فإن 51 بالمائة من التونسيين يتصورون ان الفساد بعد الثورة مازال موجودا في الامن و32 بالمائة يعتقدون أنه موجود في المجلس الوطني التأسيسي و32 بالمائة على مستوى الحكومة و31 بالمائة على المستوى المحلي و30 بالمائة على مستوى القضاء. جاهزية للفساد ويقول كمال العيادي إن العوامل التي أدت الى تفاقم الفساد في تونس متنوعة، فهناك العامل الفردي بمعنى جاهزية الأفراد والتسليم بالرشوة كظاهرة مجتمعية مسكوت عنها ومتسامح معها.. كما توجد عوامل أخرى وهي الممارسة الكليانية للسلطة وعدم قيام أجهزة الرقابة بدورها بحكم انعدام الاستقلالية، وعدم تفعيل القوانين. كما أشار العيادي إلى أن الفساد ظاهرة مستمرة ولا يمكن معرفة حجمه الحقيقي الا من خلال ما يصل اليه القضاء النزيه، ولاحظ أن محاولات التقييم الموضوعي للفساد تصطدم بمعضلة المفارقة بين الحجم الحقيقي للفساد وما يصل منه إلى القضاء. ويجب على حد تأكيده أن يكون القضاء نزيها ومستقلا وأن تتوفر لديه البراهين والقرائن الكافية للحكم العادل، ونبه إلى أن الفساد الذي يصل للقضاء ضئيل جدا، لأن من يمارسون الفساد لهم قدرة وخبرة على التستر عليه. فالفساد كما يذهب إليه العيادي مسألة معقدة وصعبة ومصداقيتها قابلة للطعن لذلك لا يمكن تقييمه إلا من خلال مؤسسات مستقلة وقضاء مستقل وبالنأي به عن التجاذبات السياسية. استقلالية أجهزة الرقابة وللتصدي لظاهرة الفساد يؤكد كمال العيادي على ضرورة أن تكون أجهزة الرقابة مستقلة تماما، والضامن الوحيد على مستوى السياسات هو تلك المؤسسات المستقلة. ويضيف: «اذا نجح الانتقال الديمقراطي في وضع الآليات الكفيلة بمكافحة الفساد سيتضاءل الفساد، وتتمثل أهم الاجراءات الحقيقية الكفيلة بالحد من هذا الفساد، في الانتقال من ثقافة التشهير إلى ثقافة الوقاية من الفساد.. وادماج آليات تكشف الفساد وتساعد على التوقّي من حدوثه وذلك ضمن منظومات التصرف في المؤسسات والشراءات العمومية والصفقات والمشاريع الكبرى والقطاعات الحساسة والامن والقضاء والديوانة مع تفعيل اجهزة الرقابة وتكريس استقلاليتها والنهوض بالنزاهة الفردية. وتصبح كل مؤسسة مسؤولة على الفساد صلبها ومسؤولة على فساد الأطراف التي تتعامل معها بمعنى أنها مطالبة قبل هذه المعاملات بدراسة مدى فسادها واختيار التعامل مع غير الفاسدة. وعن سؤال يتعلق بهل أن تونس مهيأة لمكافحة الفساد؟ أجاب رئيس اللجنة الدولية لمكافحة الفساد أن الافتراض الشائع هو أن ارساء الديمقراطية وحرية التعبير وامكانية التشهير بالفساد كافية للحد من الفساد، لكن هذا غير صحيح بدليل أن البلدان التي كانت لها تقاليد ديمقراطية لم تنجح في مكافحة الفساد الا بعد وضعها اليات وقائية.. فالتشهير بالفساد عامل مهم لمكافحة الفساد لكن يجب أن يكون منظما ومقننا لكي يحافظ على مصداقيته. وأضاف :»ان الديمقراطية وحرية التعبير لا تكفي للقضاء على الفساد اذ يمكن ان ننجح في حرية التعبير وان تكون لنا حياة سياسية متنوعة لكننا لا يمكن ان ننجح في مكافحة الفساد.. فإيطاليا فيها حرية تعبير لكن الفساد اصبح فيها مهيكلا وفي لبنان امكانيات التشهير بالفساد متاحة لكن الفساد متغلغل». وتحدث العيادي عن اللجنة الدولية لمكافحة الفساد التي أحدثت منذ سنة 2005 وبين أن هذه المنظمة تنأى بنفسها عن التشهير بالفساد وفي المقابل فإنها تعمل على بناء القدرات للحد من هذا الفساد من خلال تكوين الأفراد ووضع المنظومات التي تقي المؤسسات العمومية والخاصة من الفساد.