الترفيع في تعريفات الكهرباء والغاز: "الستاغ" توضح..    أمين عام منظمة التعاون الإسلامي يدعو لوقف حرب الإبادة في غزة وحشد الدعم للاعتراف بدولة فلسطين    للمرة ال36 : ريال مدريد بطلا للدوري الإسباني    المهدية: الاحتفاظ بشخص محل 15 منشور تفتيش وينشط ضمن شبكة دولية لترويج المخدرات    ظهرت بالحجاب ....شيرين عبد الوهاب تثير الجدل في الكويت    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات إلى 58 قتيلا و67 مفقودا    هذه مواعيدها...حملة استثناىية لتلقيح الكلاب و القطط في أريانة    طقس قليل السحب بأغلب المناطق وارتفاع طفيف للحرارة    زلزال بقوة 5 درجات يضرب جنوب شرقي البيرو    طقس اليوم الأحد...أجواء ربيعية    جندوبة: إنطلاق عملية التنظيف الآلي واليدوي لشواطىء طبرقة    جامعة الثانوي تدعو الى وقفة احتجاجية    تونس تشارك في المعرض الدولي 55 بالجزائر (FIA)    استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    الاعتداء على عضو مجلس محلي    نبيل عمّار يُلقي كلمة رئيس الجمهورية في مؤتمر القمة لمنظمة التعاون الإسلامي    نتائج الدورة 28 لجوائز الكومار الادبي    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    وزير الفلاحة وممثّل منظمة الفاو يتّفقان على دعم التنمية والأمن الغذائي والمائي لمواجهة التحديات المناخيّة    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات نهاية الأسبوع    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    بطولة الكرة الطائرة: الترجي الرياضي يواجه اليوم النجم الساحلي    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    14 قتيلا جراء فيضانات... التفاصيل    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"كمال العيادي" (خبير دولي في الفساد وكاتب دولة سابق في حكومة "بن علي") ل«التونسية»: مطلوب قانون يحمي المبلّغين عن الفساد..و مطلوب إخراج محاربة الفساد من إطار التجاذبات السياسية
نشر في التونسية يوم 16 - 06 - 2012

نعوّل على الحكومة لإجبار المؤسسات على اعتماد آليات مكافحة الفساد
لابدّ من تفعيل هيئة مكافحة الفساد


هو خبير دولي متحصل على شهادة مهندس من المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس وعلى شهادة الدراسات العليا المتخصصة في القانون إضافة إلى شهادة اللغة الانقليزية اختصاص أعمال من جامعة كامبريدج البريطانية وعلى شهادة المصادقة في تدريس القيادة والريادة من مؤسسة دايل كارينقي الأمريكية وشهادة في تدريس أخلاقيات التعامل المهني ومكافحة الفساد.
قدّم ما يزيد عن 80 محاضرة في المجال العلمي في عديد من المؤتمرات الدولية والجامعات بآسيا وأمريكا، ترأس ونظم وشارك في تنظيم قرابة مائة مؤتمر دولي بتونس... وهو الرئيس المؤسس للجنة الدولية لمكافحة الفساد بقطاع البنية التحتية منذ 2007 إلى حدّ هذا الوقت.
ضيف هذا العدد هو «كمال العيادي» صاحب الجائزة الدولية لسنة 2011 للريادة ومكافحة الفساد ب«اليونسكو» وكاتب دولة سابق في حكومة بن علي.
كيف ترون أنجع الطرق لتقييم مستوى استشراء الفساد في تونس أو في بلدان أجنبية؟
إن تقييم الفساد في تونس أو غيرها، هو عملية معقدة جدا ولا تضفي في كل الحالات إلى نتائج ذات مصداقية، وهذا يعود إلى العديد من العوامل، العامل الأساسي هو أن الفساد أمر متستر عنه، لا يظهر للعيان وبالتالي فإن المعطيات المتوفرة حوله معلومات شحيحة ولا تعطي الحجم الحقيقي لهذه الظاهرة.
فإذا أردنا أن نقيّم الفساد، بطريقة موضوعية علمية، لابدّ أن نعتمد «حالات الفساد» التي تم فيها إجراء تحريات وهذه التحريات تكون مصادقا عليها أو بحكم قضائي، وبالتالي إذا أردنا أن نعتمد المنطقية والمنهجية العلمية، فلا يمكن أن نقيم الفساد إلا من خلال ما يصل إلى القضاء، ولكن في نفس الوقت إذا اعتمدنا ما يصل من حالات الفساد إلى القضاء، كمصدر وكتقييم لمستوى استشراء الفساد قد ننتهي إلى مفارقة كبيرة، باعتبار أنه إذا ما اعتمدنا على الحالات التي تصل إلى المحاكم، فربما نمرّ جانب الحقيقة لأن الحالات التي تصل إلى القضاء هي حالات نادرة بالمقارنة مع الحجم الحقيقي للفساد، وهنا يكمن وجه المقارنة، يعني ما بين أن نقيم الفساد بطريقة علمية، بناء على أحكام قانونية، وبين أن نعتمد على أحكام قانونية وهي لا تمثل حقيقة استشراء الفساد، لأن القضايا التي تصل إلى المحاكم عددها ضئيل بالنسبة إلى القضايا بصفة عامة، إضافة إلى العديد من العوامل، فإذا ما وصلت هذه القضايا إلى المحاكم يجب أن يكون القضاء نزيها ومستقلا وبإمكانه أن يحكم فيها وأن يعطي للناس الصورة الحقيقية لحجم الفساد.
ونضيف إلى ذلك عاملا ثالثا هو أن حالات الفساد تصل إلى القضاء بصفة آلية ولنفترض أن هذا القضاء نزيه وعادل ومستقل ويحكم فيها بكل استقلالية، يجب أن تتوفر للقضاء البراهين والقرائن التي تجعله يحكم بصفة موضوعية، لأن القضاء لا يحكم من خلال العاطفة ولكنه يحكم من خلال القرائن الثابتة، وفي مجال الفساد توفر القرائن هي عملية عادة ما تكون صعبة ومعقّدة باعتبار أن الفساد وخاصة في ما يسمى الفساد الكبير حسب تعريف البنك الدولي أي الذي يقوم به مسؤولون سياسيون أو في الحكم، عادة هؤلاء هم أناس يعرفون كيف يتستّرون على تجاوزاتهم، وهذا من بين العوامل التي دفعت الشعب اليوم إلى اعتبار أن القضاء ليس نزيها ولا يقوم بواجباته. فمن ناحية هناك فساد ومن ناحية أخرى غاب القضاء، لذلك فتقييم الفساد من خلال المعطيات الموضوعية الموثقة والمبيّنة يصبح أمرا صعبا ولا يعطينا نتائج حقيقية، من أجل ذلك أغلب التقارير التي اهتمت بتقييم مدى استشراء الفساد وبترتيب للبلدان حسب المؤشر الذي يهتم بالفساد، كل هذه التقارير تعتمد على الإدراك، ولا تعتمد على البيانات المرقمة (يعني كيف يدرك الشعب مستوى الفساد) مثالنا في ذلك أن مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية مبنيّ على تصورات لاستشراء الفساد أي أنه بإمكاني طرح سؤال والشخص ليس مجبرا على مدّي بأرقام، وكل تقاريرها تعتمد على الإدراك، وهذا الأخير يمتلك نقاط قوّة كما يمتلك نقاط ضعف وسلبيات باعتبار أن الإدراك يختلف من إنسان إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى، أي ليست له قاعدة موحدة.
كيف بدأ اهتمامك بموضوع الفساد، وهل هو مرتبط بما تعيشه بلادنا منذ ثورة 14 جانفي؟
في الواقع، اهتمامي بموضوع البحث في الفساد ليس وليد الثورة فهو يعود في الواقع إلى نهاية سنة 2005 عندما قمت بإحداث اللجنة الدولية لمكافحة الفساد صلب الاتحاد الدولي للمنظمات الهندسية وذلك بمناسبة استلامي لرئاسة الاتحاد الدولي ب«بورتوريكو» أي سنتان بعد انتخابي على رأس هذه المنظمة الدولية.
قبل ذلك التاريخ لم يكن لديّ وعي ومعرفة دقيقة بمدى الحركية والتعبئة التي تشهدها الساحة الدولية في علاقتها بمكافحة الفساد، والعدد الكبير من المبادرات التي تتخذها يوما بعد يوم المنظمات والمؤسسات العالمية والإقليمية لتوحيد الجهود في مجال مكافحة الفساد.
وقد انطلقت هذه اللجنة في أعمالها منذ 2005 بصفة غير رسمية كمرحلة تجريبية وذلك في انتظار اتخاذ خطوة موالية لتعزيز دورها على ضوء تفاعل المنظمات الهندسية الأعضاء بالاتحاد، والتي لم تتعود على النشاط في هذا المجال.
ولقد نجحت التجربة ولاقت اللجنة اهتماما واسعا، وفي مرحلة لاحقة قدّمت برنامجا إلى الجمعية العمومية للاتحاد التي التأمت سنة 2007 وذلك قصد هيكلة اللجنة وجعلها لجنة دائمة، وهو ما تمت المصادقة عليه، ومنذ ذلك الحين أصبحت الرئيس المؤسس لها.
وفي مرحلة ثانية، ومنذ ثلاث سنوات قمت بإحداث فرع إقليمي لتمثيل المركز البريطاني لمكافحة الفساد لدى منظمة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وأودّ أن أؤكد أن ما شجعني على إحداث اللجنة هو المساعدة التي لقيتها من قبل بعض الهيئات الدولية التي تعمل في هذا المجال، إضافة إلى منظمة المهندسين بالولايات المتحدة الأمريكية التي لها تجربة طويلة وخبرة متميزة. وقد أردنا من خلال إحداث اللجنة وضع الخبرات المتوفرة لدى بعض الهيئات الأعضاء بالاتحاد خاصة بأمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا، على ذمة بقية الأعضاء وهو ما تمّ فعلا، وقد قامت اللجنة بعديد الأعمال وأنتجت برامج تدريبية بالتعاون مع جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية والمركز البريطاني لمكافحة الفساد وهي برامج يقع اعتمادها في مجال تدريس مكافحة الفساد في العديد من البلدان.
يبدو أن هذه اللجنة ناشطة على المستوى العالمي، هل كان لها نشاط في تونس؟
طبعا لقد كانت أغلب أنشطة اللجنة بتونس، وخاصة منها البرامج الموجهة للقارة الإفريقية، فقد احتضنت بلادنا برنامج اللجنة لتعزيز القدرات في مجال النزاهة ومكافحة الفساد، وهو عبارة عن برنامج لتكوين المكوّنين والخبراء في هذا المجال.
وقد انطلق هذا البرنامج سنة 2008، حيث وقع تنظيم جملة من الدورات التدريبية احتضنتها مدينتا تونس والحمامات مع بداية سنة 2009 ثم 2010، وقد استفاد منها العديد من الإطارات من عدد من الدول الإفريقية إلى جانب الإطارات العاملة بالمؤسسات العمومية بتونس.
إلى جانب ذلك، نظمت اللجنة عددا هاما من الندوات والورشات بالبرازيل والأرجنتين والكويت والولايات المتحدة الأمريكية، وعدد من البلدان الإفريقية.
من الصعب أن يتصوّر المرء أن لجنة تعمل في مكافحة الفساد يمكن أن يكون لها نشاط في تونس زمن بن علي، فكيف كان لك ذلك خاصة أنك كنت مقرّبا من النظام الحاكم واشتغلت في مسؤوليات من ضمنها كاتب دولة؟
تساؤلك في محله، فمن الصعب تصوّر أي نشاط في هذا المجال في الوقت الذي كان فيه موضوع الفساد من المحرمات التي لا يمكن الخوض فيها مباشرة، أو حتى بمجرد التلميح، في المقابل، كل ما قلته هو وقائع تاريخية ثابتة، بدون مزايدة أو توظيف.
لقد قمت بإحداث اللجنة الدولية لمكافحة الفساد سنة 2005 في الوقت الذي كنت أشغل مسؤولية كاتب دولة، ثم قمت بإحداث المكتب الإقليمي للمركز البريطاني لمكافحة الفساد سنة 2009 في الوقت الذي كنت فيه عضوا بمجلس المستشارين وقد علقت على ذلك بعض صحف المعارضة مثل «مغرب كونفيد نسيال» لقد سعيت ونجحت نسبيا في فرض حدّ أدنى من الاستقلالية وبين نشاطي صلب المجتمع المدني على رأس الاتحاد الدولي للمنظمات الهندسية وصفتي الرسمية كمسؤول في مواقع متقدمة في تونس، لم أشعر أبدا أنه كان من واجبي أن أستشير السلط الرسمية لتزكية المبادرات التي اتخذها في إطار نشاطي دوليا، وأنا على يقين أن هذا التصرف لم يرق للسلطة الحاكمة، وهو ربما من الأسباب التي عجلت بإقالتي من منصبي ككاتب دولة بطريقة فجئية وعنيفة، لقد تم تهميشي كليّا حتى بعدما اتضح أن أسباب الإقالة التي حاول النظام تسويقها كانت واهية.
وللأمانة، فإن من بين العوامل التي ساعدتني على القيام بنشاطي في مجال الفساد دون التصادم مع النظام السابق، هو أن ميثاق المنظمة التي أنتمي إليها ينأى عن التشهير بالفساد.
لقد كان نشاطنا موجها نحو بناء القدرات وتعزيز الخبرات من أجل مساعدة الحكومات والمؤسسات على اكتساب الخبرة والآليات الكفيلة بمكافحة الفساد. ولنا مقاربات علمية بعيدة عن التوظيف السياسي لموضوع الفساد للتشهير بالحكومات وإحراجها. وهو خيار مبنيّ على عوامل موضوعية. ولانزال على هذا الخيار، نحن مع التمشي الهادئ والرصين الذي لا يخلق توترا في العلاقات وتهييج الرأي العام باستخدام الفساد كوقود لا يحمل فائدة ولا يؤدي دائما إلى اجتثاث الفساد من جذوره.
ولكن كيف يمكن أن نكافح الفساد من دون التشهير به؟
في الواقع هناك فرق بين التشهير بالفساد والتبليغ عن الفساد، التبليغ عن حالات الفساد شيء ضروري وهو من بين الآليات التي تعتمد لمكافحة الفساد، هناك ما يسمى ب «les alertes éthiques» وهي طريقة يقع إدراجها ضمن منظومات التصرف، وقد تبناها البنك الدولي، والتبليغ لا يعني التشهير بالفساد.
إن التشهير بالفساد بطريقة فوضوية، دون التقيد بمعايير، قد يخلق حالة من التوتر ومن عدم فهم حقيقة وماهية الفساد وربما يخوّل ذلك لمجموعة من الفاسدين أن يفلتوا، وهو ما يجعل من الفساد وسيلة للاستثمار السياسي.
إن الفساد موضوع حساس جدا يقع استخدامه سياسيا في بعض الحالات، شخصيا قمت بزيارة جملة من الدول الإفريقية وأخيرا كنت في دولة إفريقية، التقيت برئيسها، ولهم سياسة في مكافحة الفساد، فقمت بالخوض في هذه السياسة ألا وهي استثمار الفساد لخدمة السياسة، يعني أن بعض الحكومات بإمكانها أن تستعمل الفساد، ورجال الفساد يريدون أن يصبح موضوع الفساد موضوعا مدمرا سياسيا وبالتالي يريدون استعماله ليبيحوا الفساد في بعض الحالات، وكان ذلك موجودا في عهد بن علي، وبالتالي التشهير بالفساد بصفة فوضوية لا يخدم في نهاية المطاف مكافحة الفساد، لابدّ من التبليغ عن الفساد ولكن بطرق علمية ومضبوطة، ولابدّ أن يوجد في تونس قانون يحمي المبلّغين عن الفساد، لأن هناك قوانين تتعارض مع التبليغ في الوقت الحاضر لذلك فمنظمتنا لا تقوم بالتشهير بالفساد نحن نقوم بالتوقي منه وآليات التوقي صلب المؤسسات والإدارات متعددة.
هل قمتم بتبليغ برنامجكم إلى الإدارات والمؤسسات التونسية؟
منذ فترة، قمت بتنظيم ندوة هدفها تعريف المؤسسات العمومية والخاصة بآليات التوقي من الفساد، هي آليات مثل آليات ضمان الجودة الكاملة، مثل المنتوج الذي يقع تصنيعه في نهاية المطاف، وتدمج هذه الآليات ضمن منظومات التصرف كاملة، وتنطلق هذه الآليات بعملية جرد المعاملات التي هي معرّضة أكثر من غيرها للفساد، مثلا المسؤول عن الشراءات العمومية، هو شخص معرّض للفساد، وهناك من يتعرض للفساد أكثر من غيره وبالتالي آليات التوقي تنطلق قبل كل شيء بجرد المواقع الأكثر عرضة للفساد، إلى جانب جرد الأشخاص المعرّضين أكثر من غيرهم إلى الفساد واتخاذ الإجراءات بخصوص التسيير المؤسساتي، وهو الأمر الذي نريد تقديمه للمؤسسة لتندرج في إطاره وتعتمده.
حقيقة هي إجراءات كبيرة، وعموما هي إدماج آليات التصرف في النزاهة ضمن منظومة التصرف في المؤسسة بصفة عامة سواء كانت مؤسسة عمومية أو خاصة.
قمنا بتقديم برنامجنا وقد لاقى بعض التجاوب من بعض الإدارات، ونحن نعوّل أكثر على الحكومة لتجبر المؤسسات على اعتماد هذه الآليات، وفي اعتقادي، فإن وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد على استعداد للاستفادة من تجارب الدول الأجنبية.
أصدرت رئاسة الحكومة منذ أسابيع منشورا دعت فيه المؤسسات والمنشآت العمومية والهياكل الإدارية والولايات إلى إحداث خلايا سمّيت بخلية الحوكمة الرشيدة، ما رأيكم في هذا الإجراء وهل يكفي للحدّ من الفساد في القطاع العمومي؟
إن عملية إحداث هذه الخلايا صلب المؤسسات هي بادرة طيبة وأعتبرها خطوة في اتجاه تكريس الشفافية والحوكمة بالمؤسسات وخاصة العمومية لكن أعتقد أنه من الضروري أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى: من ذلك ضرورة مزيد توضيح مشمولات هذه الخلايا، أي أن تكون مقبولة من قبل المؤسسات وربما أن المؤسسات تشعر أنها في حاجة إلى هذه الخلايا لنشر ثقافة النزاهة ومحاربة الفساد صلبها، فربما من خلال نوعية فرض هذه الخلايا على المؤسسة، قد نرى من خلالها المؤسسة وهو حسب رأيي سوء فهم يجري بخصوص هذه الخلايا، أي قد يعتبرونها للتصنت على المؤسسة، لكن شخصيا أعتقد أنه إذا أردنا أن تكون هذه الخلايا فاعلة، لابدّ أن يتوجه عملها أكثر إلى مقاومة الفساد وترك كشف الفساد المستشري إلى هياكل الرقابة الأخرى وإلى القضاء، وبالتالي إذا أردنا أن تتقبّل المؤسسات هذا الإجراء وجب أن توجه هذه الخلايا أكثر إلى وضع مقومات الوقاية من الفساد، ولابدّ أن نعتبر هذه الخلايا خطوة إيجابية ولابدّ أن ترتقي إلى ما هو معمول به في المؤسسات.
المعمول به اليوم في المؤسسات الكبرى في جلّ بلدان العالم، هناك ما يسمى بالإدارات التي تعمل على تطابق التصرفات بالمنشآت مع المعايير وأخلاقيات النزاهة ومقاومة الفساد، وتصبح بالتالي مقاومة الفساد ونشر النزاهة من ضمن منظومات التصرف وموكولة إلى إدارات، مثلما نجد إدارة الجودة أو إدارة التدقيق في المؤسسة العمومية.
مسؤولية التصرف في النزاهة تكون ضمن إدارة تشرف عليها وتراقب سير العمليات ومستوى النزاهة وتعمل على الترفيع من مستوى النزاهة والنهوض بأخلاقيات التعامل المهني صلب المؤسسة، وبالتالي أنا أقول إن هذه المبادرة هي طيبة وتنم عن نية طيبة عن الوزارة المكلفة بمكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة ولكن لابدّ أن تقابلها إرادة من قبل المؤسسات ولا يقابلها تخوف من دور هذه الخلايا، وأرى أن هناك ضرورة لمزيد تبسيط وفهم محتوى عمل هذه الخلايا.
يعلم الرأي العام أنك شغلت منصب كاتب دولة في العهد السابق ووقعت إقالتك بصفة فجئية بعد سنة ونصف، وسبق لك أن صرحت لإحدى الصحف أن طريقة إقالتك كانت تعسفية وغير مهنية. فما هو تعليقكم؟
وقعت دعوتي سنة 2004، وقام بن علي حينها بتعييني كاتب دولة بوزارة التجهيز والإسكان، وذلك على خلفية نشاطي الدولي ضمن المجتمع المدني وباعتبار أنني سياسيا كنت مستقلا ونشاطي كان صلب المجتمع بصفتي «تكنوقراط»، حيث اشتغلت عميدا للمهندسين التونسيين ثم وقع انتخابي على رأس الاتحاد العالمي للمهندسين ثم وقع تكليفي بعديد المهام الدولية من قبل المجموعة العلمية الهندسية من ضمنها المشاركة في تنظيم القمة العالمية... وشاركت في إنجاز العديد من التقارير وكنت عضوا ضمن فريق الأمم المتحدة للعلوم والتكنولوجيا ورئيس فريق عمل باليونسكو.
تمّت إقالتي عندما كنت مسافرا في مهمة تابعة لنشاطي على رأس الاتحاد الدولي للمنظمات الهندسية، وعند عودتي إلى أرض الوطن وقع إعلامي في المطار أن الوزير الأول كان بانتظاري، تحوّلت إلى الوزارة الأولى أين أعلمني أنه وقعت إقالتي، وعندما سألته عن سبب ذلك أعلمني أنه يجهلها، وفي المقابل سلّمني ظرفا من طرف بن علي وطلب مني ألاّ أغادر البلاد.
وجه لي بن علي تهما منها نشر معلومات في علاقة بنشاط بعض المتنفذين بالوزارة ونسبوا إليّ تهمة إدلاء معلومات إلى الصحافة العالمية، وفي اليوم الموالي في 10 مارس 2006، أعلمني السائق أنه قد وقع حجز كل أغراضي وأنني ممنوع من الدخول إلى مكتبي الذي وضع على ذمة أمن الدولة لثلاثة أسابيع وقاموا بحجز أغراضي الشخصية التي لم أقم باستردادها إلى يومنا هذا، وبالخصوص الحاسوب الشخصي، وأنا أوجه دعوة إلى وزير الداخلية إلى كشف ملابسات هذا العمل الذي استهدفني وإلى استرجاع أغراضي الشخصية، ووقع بعد ذلك الترويج للعديد من الإشاعات، ومررت بفترة صعبة جدا بعد التحريات، اتضح أنها كانت إشاعات كاذبة، لكني أعتقد أن مسيرتي و«نزاهتي» كانت نشازا بالنسبة لهم ووجودي كان مقلقا للعديد منهم.
هل ترون أن آلية الإقصاء دون محاسبة هي آلية ناجعة في مقاومة الفساد؟
أعتقد أن الإقصاء لا يمكن أن يتم إلا بعد المحاسبة، والإقصاء الذي لا يستند إلي تحريات قد يؤدي إلى حرمان ونقمة وشعور بالانتقام، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى أشكال تعبير أخرى وشخصيا أنا ضدّ الإقصاء، إلا الإقصاء المعتمد على التحري والمعتمد على القضاء الذي يملك الآليات.
الإقصاء الذي لا يرتكز على منظومة قضائية، ربما قد يؤدي إلى نتائج وخيمة وبالتالي مقاومة الفساد لا يمكن أن تكون إلاّ عن طريق القضاء.
هل يمكن اعتبار عمليات الإقالة في صفوف القضاة والديوانة والأمنيين... خطوة لاجتثاث الفساد من الإدارة التونسية؟
شخصيا ليست لي معطيات كافية لكي أحكم على هذا التمشي الذي قامت به الإدارة ولكن ثقتي كبيرة في الأحكام التي تصدر عن القضاء حتى وإن كان القضاء غير عادل وغير نزيه في بعض الحالات، إلا أن هذه الأحكام تصدر عادة عن هيئات قضائية من المفروض أن تكون قد خطت خطوات لازمة لمعرفة الحقيقة وخلفياتها. وبالتالي ليست لي معطيات تخوّل لي أن أحكم على أشياء ظاهرية، لكني مع اتخاذ إجراءات ضرورية إن ثبتت إدانة الشخص المتورّط في الفساد.
ما هو موقفك من الوزارات المعنية بمقاومة الفساد على غرار وزارة عبد الرحمان الأدغم ووزارة محمد عبو... ألا ترون أنه كان من المستحسن بعث هيكل موحّد ومستقلّ لمقاومة الفساد؟
في الواقع ليست لي اتصالات بالوزارة التي يشرف عليها السيد «محمد عبو» وليس لي علم بما تقوم به هذه الوزارة، ولكن علاقتي طيبة مع وزارة «عبد الرحمان الأدغم»، ولنا مبادلات وتعاون سوية وأحسست أن هذه الوزارة متفتحة على الخبرات والكفاءات كما سبق أن اجتمعت بالوزير وبمعاضديه ولاحظت أن المقترحات التي تقدمت بها يقع اعتمادها، كما لاحظت أن الوزارة متفتحة على التجارب الدولية، وأن بإمكانها أن تقوم بعمل طيب، من الأكيد أنها في حاجة إلى الكفاءات، لكني أعتقد أنها بدأت تتحسس طريقها في مجال مكافحة الفساد، دون أن ننسى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي يترأسها السيد «سمير العنابي» التي ترنو إلى الإصلاح والتغيير.
على ذكر السيد «سمير العنابي»، فمنذ توليه رئاسة الهيئة، طلب من الحكومة مرسوما يحمي كافة أعضاء هيئته، إلا أنه وإلى حدود اليوم، الحكومة لم تتصرف في هذا الشأن... فهل من الممكن أن نعتبر أن الحكومة تتعمد عدم فتح بعض ملفات الفساد؟
إن تعيين السيد «سمير العنابي» على رأس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هو اختيار موفق، وهو قادر على القيام بعمل طيب، وعمل الهيئة مهم جدا، إلا أن ما لاحظته أن الهيئة قد استغرقت وقتا طويلا لتباشر عملها، فأصبح من الضروري اليوم تفعيل هذه الهيئة وتسمية أعضائها للانطلاق في العمل.
ومن مصلحة الحكومة، أن تنطلق الهيئة في العمل، إذ ليس من المعقول أن يكون الفساد من مسؤوليات الحكومة فقط، ولا من مسؤولية رجال السياسة، لابدّ من عدم الخلط وعدم استغلال مسألة الفساد في المنابر السياسية، وهذا موجود في بعض البلدان وبعض الأحزاب. لذلك يجب أن تصبح مكافحة الفساد من مشمولات الهيئة ومن مشمولات القضاء، لابدّ أن تخرج محاربة الفساد من إطار التجاذبات السياسية وتجاذبات الحكومة، لأن كل حكومة تتغير بلون السياسي الذي ينجح في الانتخابات وإذا أردنا أن ننجح في المسار الديمقراطي وجب أن تتوفر لدينا مؤسسات وجب أن تعمل بمعزل عن الألوان السياسية للحكومة، وجب أن تكون هناك معايير استقلالية.
هل لديكم توجهات سياسية معيّنة؟ بمعنى أصح هل لديكم فكرة أو اقتراحات للانضمام إلى حزب معين؟
في الواقع أنا مستقلّ وفي حياتي لم أنتم إلى حزب سياسي، وفي الوقت الحاضر ومنذ اندلاع الثورة، اقترحوا عليّ الانضمام إلى أحزاب سياسية معروفة، من موقع قيادي، وهناك من اقترح عليّ قيادة ائتلاف حزبي في وقت ما.
ورغم تقديري لهم جميعا، رأيت أنه من الأفضل أن أوظف قدراتي وخبراتي في التنمية رفقة أشخاص أكنّ لهم تقديرا كبيرا مثل الأستاذ الشاذلي العياري وهو خبير اقتصادي واشتغل مع بورقيبة سابقا، قمنا ببعث المركز التفكير الاستراتيجي للتنمية بالشمال الغربي، وننشط حاليا في هذا المجال.
كيف تقيّمون المرحلة الحالية التي تعيشها تونس؟
هي مرحلة دقيقة جدا، خاصة بالنظر إلى الأحداث التي نعيشها حاليا، ونحن نعيش هذه المرحلة منذ سنة، فعندما نقرأ أن المؤشرات الاقتصادية في تراجع، وأن الانبهار بتونس على المستوى الدولي، تحوّل إلى علامات استفهام أتأسف لأن الانطباع الأولي الذي خلقه الشعب التونسي لم يقع استثماره مع الأسف الشديد، وتحولنا اليوم إلى خلق انطباع جديد، وأصبحت صورتنا مبهمة خارجا.
ليس من حقنا اليوم أن نضيّع أي مورد بشري، وجب أن نعمل على كيفية استثمار الموارد البشرية الكامنة ضمن الإدارات التونسية، وإذا ما أردنا أن نرفع التحدي، وجب الكفّ عن تهميش المواد البشرية أي الكفاءات، من الإدارة التونسية.
نحن اليوم نستعمل ألفاظا وألقابا نحن في غنى عنها، لابدّ أن نتعاون معا و«تونس للجميع»، إضافة إلى أن نجاحنا مربوط بهذا الأمر، «فشيطنة الآخر» لا تخدم المصلحة العامة، كفانا من هذه النمطيات والشيطنة، ولنتعامل معا، لأن هناك طاقات وخبرات تريد أن ترتقي بالبلاد، فلنمكنها من فرصة تحقيق ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.