نشرع بداية من اليوم على بركة الله في نشر فصول من تفسير "جزء عمّ" من القرآن الكريم للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي شاكرين مكتب فضيلته بتونس الذي خصّ الصّباح بهذا التّفسير القيّم. التفسير إيضاح وتبيين، يكشف المراد عن اللفظ المشكل، يستعمل في الكشف الحسي، وفي الكشف عن المعاني المعقولة، عرّف العلماء التفسير بتعاريف كثيرة يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها، فهي وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، إلا أنها متحدة من جهة المعنى، وما تهدف إليه، فقد عرّفه أبو حيان في البحر المحيط بأنه "علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك". وفسر "فقولنا "علم" هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا "يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ" القرآن" هذا هو علم القراءات، وقولنا و"مدلولاتها"، أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة، الذي يحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا و"أحكامها الإفرادية والتركيبية" هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا "ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب" يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا "وتتمات لذلك" هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك" فالتعاريف عديدة ذكرها العلماء والملاحظ أنه ظهرت مدارس في التفسير منها مدرسة التفسير بمكة، ومدرسة التفسير بالعراق، بعد مرحلة التفسير في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم تأتي مرحلة التفسير في عصور التدوين، فكان التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، وتفسيرات الشيعة، والخوارج والصوفية، والتفسير الفقهي، والتفسير العلمي أو ما يسميها البعض بكتب التفسير الحديثة، ومن العسر استعراض هذا التراث المتسع الأبعاد، فقد أشرت إليه قصد الاعتراف بفضل السابقين على اللاحقين، واللبيب بالإشارة يفهم، وسأخالف القاعدة العامة فأشرع بتقديم الأحداث، لأتعرف على مرجعيته، ولن أنحاز لهذا أو ذاك أو ذلك، فالواجب يفرض عليّ شكر كل علماء العالم الإسلامي الذين رفضوا كتم العلم، وتحدوا الصعاب، ويسروا ما عسر على غيرهم، لذا سيكون حديثي الأول عن عالم جليل، مشهور عالميا، متمسك بالفكر النيّر، والدين الميسر، اصطفى صحيفة الصباح لتكون باكورة من يكشف الغطاء عن تفسيره لجزء "عم يتساءلون"، إنه سماحة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي صاحب كتب الفكر النيّر في قضايا الدين والمجتمع في عصرنا الحديث، صاحب كتاب: فقه الزكاة، والعبادة في الإسلام، والحلال والحرام في الإسلام، والفقه الميسر، وغيرها. من الكتب التي حررت الفكر الإسلامي من الجمود، ووضعت أهل الجحود في حرج، اقتداء بخاتم المرسلين الذي يفضل التيسير على التعسير ما لم يخالف جوهر العقيدة الإسلامية. النّبأ العظيم: الحلقة الأولى من تفسير الشيخ الدّكتور يوسف القرضاوي هذا التفسير تضمن جزء "عم يتساءلون" وهي سورة "النبأ" بدأ بها وختم بسورة "الناس" بعد ذكر نص السورة كاملة بآياتها الربعين قال سماحة الدكتور يوسف القرضاوي: "هذه السورة تسمى سورة ( النبأ)، أو سورة (عم) أو سورة (عم يتساءلون)، وهي مكية بالإجماع يدل على ذلك موضوعها وأسلوبها، ومعنى أنها مكية أنها نزلت في الفترة التي كانت قبل الهجرة إلى المدينة (عم يتساءلون 1) عن النبأ العظيم (2) الذي هم فيه مختلفون (3) كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5). تبدأ السورة بطرح هذا السؤال أو الإستفهام (عم يتساءلون) أي عن أي شيء يتساءلون؟ والتساؤل تفاعل من السؤال أي يسأل بعضهم بعضا عنهن بمعنى أنه أمر شغلهم عن غيره، فبات يسأل بعضهم بعضا عنه.. والميم في (عمّ) أصلها (ما) الاستفهامية حذفت ألفها تخفيفا، كما تحذف بعد حروف الجر مثل (لم) (فيم) و(إلا م) وفي القراءات إثباتها (عمّا) وضمير الجمع في (يتساءلون) يعود إلى المشركين في مكة، وإن لم يكن لهم ذكر فيما سبق ولكنهم حاضرون وإن غابوا فالمعركة معهم مستمرة منذ أعلن محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه رسول الله إليه خاصة، وإلى الناس كافة. وبعض المفسرين يقولون: إن الضمير في "يتساءلون" للمشركين وللمسلمين، وأرجح أنه للمشركين وحدهم لأن المسلمين لم يشاركوا في هذا التساؤل، كما أنهم لا ينطبق عليهم الوعيد الذي ذكره الله في شأن المتسائلين "كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون" (النبأ: 45). (عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون) والنبأ كما يقول أهل اللغة: الخبر الذي له شأن فإذا وصف بأنه "عظيم" بالتذكير أصبح ذا خطر، فيكف إذا عرّف ب(أل) وأنه (النبأ العظيم)؟. أي نبأ هذا الذي بات الشغل الشاغل للقوم يتساءلون عنه: أصدق هو أم كذب؟ حق أم باطل؟ يقين أم ظن لا يغني من الحق شيئا؟ اتفق كثير من المفسرين على أنه (البعث بعد الموت) الذي أنكره أهل مكة، ومعهم سائر العرب وقالوا (أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعثون خلقا جديدا (الاسراء آية 49) "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم" (يس 78). ودل على صحة هذا القول أنه سبحانه وتعالى، بدأ يرد بعدها عليهم ببيان مظاهر قدرته، التي تبين بوضوح قدرته على إعادة الخلق فهو أهون من بدئه، وذلك في قوله تعالى "ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا" (النبأ 68) إلى آخر الآيات في السياق.. وهناك من مال إلى أن (النبأ العظيم) هو (التوحيد) الذي نقض أساس دينهم الأول وهو الشرك، أو الوثنية التي ورثوها عن آبائهم حتى قالوا "أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا الشيء عجاب (ص5) وذهب بعض المفسرين إلى أن النبأ العظيم هو: القرأن الكريم، أو أنه نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما نزل عليه من وحي. والذي يترجح لي هذا من خلال تدبري للقرآن وربط بعضه بعض، أن النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو: الوحي الذي أنزله الله على محمد، وفيه القرآن الكريم، فهو أعظم ما أوحى ربه إليه، كما قال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" (الشورى 52) (بما أوحينا إليك هذا القرآن) (يوسف 3) وفيه أعلن عقيدة التوحيد ونبذ الشرك، كما أعلن عقيدة البعث ومن ورائه الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. في سورة (ص) (قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السموات وما بينهما العزيز الغفار، قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون" (ص 6568)، فهذا النبأ العظيم هو الوحي الذي أرسله الله به بشيرا ونذيرا، وبه دعا إلى التوحيد وإلى البعث كما قال تعالى "بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد" (ق23)، وهو الذي حكاه القرآن عنهم حين قال "أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا" (يونس 2). وهو الذي عجب منه أقوام الرسل من قبل من عهد نوح الذي عجب قومه من رسالته لهم فرد عليهم بما ذكره القرآن أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون" (الأعراف 63). وكذلك كان قوم هود من بعده الذين رددوا ما قاله قوم نوح، فقال لهم "أوعجبتم أن جاء كم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم" (الأعراف 69) وهذا هو النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه، وفي حقيقة من جاء له فقالوا: كاهن، وقالوا شاعر، وقالوا ساحر، وقالوا مجنون، وقالوا عن القرآن "أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" (الفرقان 5). وقالوا "إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا السان عربي مبين" (النحل 103) ويصف القرآن حيرتهم وترددهم عن حقيقة محمد وماجابه من وحي "بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتي بآية كما أرسل الأولون" (الأنبياء 5). و في مقام آخر قال تعالى مبينا تناقض مواقفهم وعدم ثباتهم على أمر موحد فقال سبحانه "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين" (سبأ 43). فهكذا نرى شدة اختلافهم في شأن الوحي إلى محمد وارساله من الله تعالى إليهم على حين نراهم متفقين على موقفهم من البعث فهو موقف الانكار والاستبعاد "وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين" (الأنعام 29) " وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا" (الاسراء 49) "وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة" (سبأ 78) فمن بواعث عجبهم واستغرابهم من بعثه ما جاءهم من أمر بعث الموتى من قبورهم، بعد أن رمت أجسادهم وتفتت ومزقت كل ممزق ! و قد رأيت بعض المفسرين قد اختار أن النبأ العظيم هو القرآن أو نبوة محمد عليه الصّلاة والسّلام ومنهم من رجح أنه البعث بعد الموت على المشهور وهو ما لم نرتضه رأيا. وقد ألف شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز كتابه عن القرآن سماه (النبأ العظيم) مما يشير إلا أنه اختار ما اخترناه هنا. "كلا سيعلمون (4) ثم "كلا سيعلمون (5)" كلا: حرف ردع وزجر، ولهذا اختص به القرآن المكي، ولم تعرف في النصف الأول من القرآن، وفي سورة العلق "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" (العلق 67) "كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية" (العلق 15)، والفعل المضارع المتعدي في 'سيعلمون) نزل منزلة اللازم كما في قوله تعالى "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر 9)، إذ لا يقصد معلوما معينا، فكأنه يقول: سينكشف عنهم الغطاء، وتتجلى لهم الحقائق، ويعرفون الأمور كما هي، وعبر بالسين لا ب(سوف) لأن للمستقبل القريب، وسوف للمستقبل البعيد، وكأنه يقول إن حقيقة هذا النبأ العظيم ستتجلى لكم عن قريب، وتعرفون أن محمد هو رسول الله حقا، وأن القرآن منزّل عليه من الله تعالى، وسيؤيد بنصره، ويعلي كلمته، كما قال سبحانه "وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها" (النمل 93) "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم وحتى يتبين لهم أنه الحق" (فصلت 53) وكرر الجملة لتكرير الوعيد على غرار ما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى "أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى" (القيامة 3435) وقوله "كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون" (التكاثر 34) وإذا يظهر لكم هذا في الدنيا فسيظهر في الآخرة وما أقربها: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب" (النحل 77)." ذاك حديث النبأ العظيم. وسنواصل الحديث في حلقات قادمة لنفع الناس بهذا العلم الجليل الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الغي إلى الرشد.