عرفت بلادنا على امتداد أكثر من عقدين من الزمان خطابا مزدوجا يروج صريحه للديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، بينما يخفي باطنه واقعا استبداديا تسلطيا جعل من كبت الحريات وانتهاك حقوق الانسان مسارا ومنهجا، بدعوى الواقعية كما كانت قوانيننا، وخصوصا تلك العليا أي التي تضمنها الدستور، تحررية الى أبعد الحدود، لا تبزها في شيء مانصت عليه دساتير أعرق الديمقراطيات، إلا أن المواطن كان يصطدم بواقع آخر عند التطبيق، فهناك دائما أوامر وتراتيب تقيد كل الحريات والحقوق تقييدا كبيرا وتفرغ القوانين الضامنة لها من محتواها وتتركها حبرا على ورق، ل«الزينة» وللاستهلاك الخارجي. وإن لم تكف ترسانة القوانين والأوامر والتراتيب المضادة، فإن الممارسة اليومية تتكفل بذلك فتحل «التعليمات» محل القانون وتدوسه دون أية ضوابط. واليوم بعد عام ونصف من الثورة، فإن هناك للأسف الشديد مؤشرات على أننا قد نكون نسير على نفس الدرب ووفق نفس المفهوم، بل هناك مخاطر على أن يتجاوز الخطاب الازدواجية ليصبح ثلاثي الأبعاد. فبعد أن كانت المصلحة العامة أو «النظام العام» هي عادة الغطاء لتقييد الحريات والحقوق والمبرر لانتهاك القوانين التحررية، فإنه يخشى اليوم أن تبقى نفس المنظومة قائمة وأن ينضاف اليها بعد آخر يدخل تحت خانة حماية المقدسات والأخلاق الحميدة والهوية العربية الاسلامية، هذه المفاهيم الواسعة الفضفاضة والقابلة للتمطيط الى ما لا نهاية له. إن كل طريق تبدأ بخطوة، ولذلك فلا بد من الحذر الشديد، وعلى كل قوى المجتمع المدني على اختلاف مشاربها أن تقرأ على حقيقتها كل الاشارات للتجند كلما فرضت الأوضاع ذلك. وقد يكون النص المقترح في مسودة الدستور حول حرية الفن والاعلام أحد المؤشرات الخطيرة في هذا المجال، إذ أنه ينص على ضمان هذه الحرية شرط عدم مساسها ب..«النظام العام» و«الأخلاق الحميدة». فلئن كانت فصول دستورنا السابق تحررية وتقدمية، إلا أن محتواها يفرغ في ما بعد بالقوانين الأقل درجة، وبالممارسة فإننا في هذه المرة، وبعد ثورة كانت في مقدمة مطالبها الحرية، بدأنا في وضع القيود القابلة لكل تأويل وتمطيط منذ الفصول الأولى للدستور، وهي اشارة لها دون شك دلالتها العميقة. فقد دأبت الدساتير في العالم على التنصيص على المبادئ العامة للحقوق والحريات على إطلاقها والامتناع عن وضع أية قيود لها، تفاديا لأي تأويل أو انزلاق. وإذا عجزنا اليوم عن احترام هذه القاعدة في هذه المرحلة من التشريع، فإن القادم قد يكون أعظم وأخطر.