تونس-الصباح الأسبوعي باعتبار أنّ الجراثيم كائنات مجهرية، فقد لا تحتاج في أحد محلات الأكلة الخفيفة في حي الخضراء بأريانة إلى أجهزة خاصة لكشفها، فبقايا الزيت والأبخرة المتصاعدة لتملأ المحل بروائح تزكم الأنوف وآلة الطبخ المهترئة والمتسخة تنبئك بأن هذه الكائنات المجهرية «تعسكر» فيها منذ وقت طويل.. فما إن خطونا الخطوات الأولى في محل الأكلة الخفيفة حتى قابلتنا أسراب من الخنافس تتخذ من حيطان المحل الصفراء مأوى ومستقرا منذ زمن على ما يبدو. كان ذلك أول ما لاحظناه وسجله فريق المراقبة الذي رافقناه في عملية مراقبة يومية تجريها وكالة حفظ الصحة وحماية المحيط التابعة لبلدية تونس، رافقنا كلا من متفقدتي الصحة رجاء رمضان ونزيهة علوي. كلتاهما أكدتا أن مخالفات محل الأكلة الخفيفة هذا لا تنتهي. فإلى الحائط الأصفر يستند جهاز طبخ اسود اختفى لونه الأصلي بعد أن «هجرته» أدوات التنظيف والمساحيق المعقمة. «جهاز التهوئة يجب أن يتغير» هكذا تخاطب إحدى المراقبات العامل بالمحل الذي لم تفارق علامات الخوف محياه والذي لا يلبس زيا خاصا بل قميصا أحمر «زينته» بقع زيت البطاطا التي يقليها منذ دخولنا إلى المحل. زيت محترق أخرجت المراقبة رجاء من حقيبتها جهازا خاصا بقياس صلوحية زيت القلي وقامت بتجربته على كأس ملأ فيه العامل جانبا من الزيت الذي يستخدمه، بعد لحظات تحول المؤشر في الجهاز إلى اللون الأحمر، ما يعني أن الزيت لم يعد صالحا للاستخدام، وأنه تجاوز عدد مرات القلي المسموح بها.أما أكياس البطاطا فقد كانت مرمية على الأرض تحت المقود، وقبالته رصف الطعام دون أن يفرق فيه بين لحم الديك الرومي المطبوخ وقطع اللحم الأخرى النيئة وهذه لوحدها تعتبر مخالفة عندما لا تفصل فيها المواد الملوثة (والمقصود هنا اللحوم النيئة) عن المواد المطبوخة. كما أن الأطعمة لم تكن مغطاة لحمايتها من الأتربة أو الحشرات التي يبدو أنها معسكرة في المكان ولا تنوي الرحيل قريبا. في ذلك الركن الصغير -الذي من المفترض أن يكون مطبخا- تلاشت كل علامات النظافة لتفسح المجال أمام أكوام الأوساخ والحشرات والعفن، وليس ببعيد عنه حاول العامل أن يحافظ على واجهة المحل نظيفة من وجهة نظره على الأقل. أخذت إحدى المراقبات عينة فورية من يدي العامل وقامت بدراستها من خلال محلول خاص أوضح أن درجة التلوث في يديه وفي طاولة العمل مرتفعة جدا إذ تحول المؤشر إلى اللون البنفسجي الداكن. مخالفات بالجملة كانت المراقبة الأخرى منهمكة في أخذ جملة من العينات من الخضر المقطعة والسلطات والمايونيز و»المرقاز» التي كانت مرصفة في واجهة التبريد، معلقة بعبارات تؤكد أن درجة الحرارة فيها مرتفعة وأن النقانق تحديدا من المفترض أن تحفظ في الثلاجة. على مقربة من واجهة التبريد انتصب وعاء كبير تحت الطاولة المجاورة يكاد العجين يفيض على جنباته بفعل الخميرة وحرارة المحل المرتفعة، كان العجين موضوعا في إناء بلاستيكي غير صحي ودون غطاء يحميه من الغبار والأوساخ العالقة في الطاولة فوقه. لم تخالف النتائج المخبرية ما سجلته العين المجردة، فقد أظهرت التحاليل التي مدتنا بها الإدارة أن الخس و»المرقاز» يحتويان على جرثومة «كوليفورم الغائطية» «Les coliformes fécaux» في 44 درجة حرارية التي تسبب الإسهال والتي قد تشكل خطرا على صحة الإنسان في حال وجدت بكميات كبيرة. وتشير السيدة لطيفة بوسلامة مديرة حفظ الصحة أن هذا النوع من الجراثيم مؤشر على تلوث سببه التعامل مع المواد الغذائية أو أسلوب تخزينها. كما تفيدنا بأن خطورة الجراثيم تختلف بحسب قدرتها على التسبب في التسمم، فبعض الجراثيم ترتفع خطورتها بارتفاع عددها في حين ان جراثيم أخرى وبغض النظر عن العدد قد تؤثر سلبيا بشكل كبير في صحة الإنسان. الى جانب ذلك أثبتت التحاليل وجود نوع آخر من الجراثيم وهو «أ.كولي المحضونة» «E. coli» في 44 درجة حرارية والتي وقع تسجيلها في الخس والسلطة الخضراء، والتي يمكن أن تسبب في أوجاع على مستوى البطن أو إسهال. وقد سجلت نتائج التحاليل عينتين مرضيتين فقط من أصل ستة السلطة المطبوخة نظرا إلى أنها تكون بذلك قد تعرضت لحرارة مرتفعة قتلت الجراثيم والمايونيز الذي بالرغم من انه يعد فضاء خصبا للتلوث الى ان المراقبة ترجح ان تكون المايونيز معلبة. ولا يعني إسناد علامة «مرضي» لعدد من المواد الغذائية أنها خالية تماما من الجراثيم ولكن نسبة الجراثيم الموجودة فيها لم تصل بعد إلى المستوى الذي يمكن أن يشكل خطرا على صحة المواطن. وحيث ما ولى المراقبون وجوههم صادفوا قائمة لا تنتهي من المخالفات ما استوجب الاستدعاء الفوري لصاحب المحل في اليوم التالي وأهم هذه المخالفات هي عدم الفصل بين المواد الملوثة وغير الملوثة وغياب طاولة العمل والماء الساخن ووجود الحشرات والذباب وانبعاث الروائح الكريهة وغياب حوض لحصر الشحوم، وغيرها من المخالفات الأخرى.. نظافة و لكن.. ملامح الخوف التي لم تفارق العامل في محل الأكلة الخفيفة كانت غائبة على صاحب أحد محلات المرطبات المعروفة بجهة أريانة. واجهة المحل البراقة والزبائن الملتفون حول الطاولات يتناولون بعض الشطائر أو الحلويات في عجلة من أمرهم لم يثن ذلك المراقبتان من أداء عملهما، إذ تخبرنا نزيهة أن مفارقات عدة يمكن أن تحدث، فكثيرا ما تكشف التحاليل مخالفات صحية في محلات لا تلاحظ فيها العين المجردة إلا النظافة، وقد لا تسجل التحاليل أية مخالفات في محلات لا ترى فيها غير الأوساخ والحشرات، الكلمة الأخيرة في كل الحالات تبقى لمخبر التحليل. واجهات التبريد احتوت على شطائر وحلويات وموالح أخذت إحدى المراقبات من أغلبها عينات، مشيرة إلى أن المرطبات تعتبر بيئة خصبة لتراكم الجراثيم والميكروبات. كانت العاملات ترتدين الزي الخاص وتلبسن قفازات شفافة ويربطن شعرهن بلفافة بيضاء، إلا أن إحدى المراقبات أشارت إلى وجود مخالفة تتعلق بحوض غسل الصحون الذي يجب أن يحتوي على ثلاثة أقسام يوضع في الأول ماء ساخن مع منظف والثاني فارغ والثالث يحتوي على ماء وجفال. في محل المرطبات الفاخر هذا تناسبت الملاحظات الأولية التي سجلناها برفقة المراقبين مع نتائج التحاليل، إلا أن ذلك لم ينف تسجيل عدد من المخالفات فمن أصل 23 عينة تحصلت 14 منها على علامة مرضي وهي خصوصا السلطة المشوية والبيتزا، أما بقية المواد التي سجلت فيها مخالفات فهي على سبيل المثال اللحم المفروم والجبن التي ضمت جراثيم «الكوليفورم الغائطية». ومن أصل 138 تحليلا أجراها الخبارء ل23 عينة درسوا في كل عينة وجود 6 أنواع من الجراثيم بلغت نسبة التلوث 8 بالمائة وهي وإن اعتبرتها السيدة بوسلامة منخفضة إلى حد ما لكنها تتطلب كذلك من صاحب المحل العمل على احترام قواعد الصحة لتجاوز ذلك. التوعية أنجع من الغلق لا تكتفي إدارة حفظ الصحة وحماية المحيط التابعة لبلدية تونس بمراقبة المحلات الغذائية بالعين المجردة فقط، فالكثير من الأمور يمكن أن تخفى عن العيون، لكن المحاليل والأجهزة المجهرية لا تفوتها. وكثيرا ما تكشف هذه الاجهزة عن مخالفات عدة اكثرها انتشارا هي جرثومة السالمونيلا التي يمكن ان تؤدي الى التسمم وفي الحالات القصوى الى القتل، وتخبرنا مديرة حفظ الصحة السيدة لطيفة بوسلامة أن فلسفتها الرئيسية في عملها تكمن في توعية اصحاب المحلات ومحاولة غرز مبادئ النظافة لديهم وتجنب حالات التسمم والإضرار بالصحة من خلال تقديم النصائح اللازمة. وبعد أن تسلمنا نتائج التحاليل اصطحبتنا كل من السيدة سمية بن شهيدة المسؤولة عن مخابر التحاليل الميكروبيولوجية للأغذية -تعد بلدية تونس البلدية الوحيدة التي تمتلك مخبرا خاصا بها- والسيدة فريال بن صالح في جولة في المخبر، وقد أوضحتا لنا مراحل عملية التحليل التي تتم على أغذية. أكثر ما يلفت الانتباه في مخبر يلعب دورا وقائيا للعمل على تكريس قواعد الصحة أن 20 سنة مرت دون أن يتم تعصير المعدات والمختبر الذي قد ينقطع عن العمل بسبب تعطل المكيف المركزي أو بعض الآلات وهذا ما ينعكس سلبا على أداء المخبر والعمل الرقابئ والوقائي التي تؤديه الإدارة، ما يتطلب ضرورة تخصيص ميزانية أكبر لصحة المواطن. أروى الكعلي مخبر وحيد ينتظر التجديد تعد بلدية تونس البلدية الوحيدة التي تمتلك مخبرا خاصا بها وهو مخبر تحاليل ميكروبيولوجية للمواد الغذائية، وقد اصطحبتنا كل من السيدة سمية بن شهيدة المسؤولة عن المخبر والسيدة فريال بن صالح في جولة داخله. وقد أوضحتا لنا مراحل عملية التحليل التي تتم على الأغذية. أكثر ما يلفت الانتباه في مخبر يلعب دورا وقائيا ويساهم في العمل على تكريس قواعد الصحة أن 20 سنة مرت دون أن يتم تعصير المعدات. فمن الممكن أنه قد ينقطع عن العمل بسبب تعطل المكيف المركزي أو بعض الآلات وهذا ما ينعكس سلبا على أداء المخبر والعمل الرقابي والوقائي التي تؤديه الإدارة، مما يتطلب ضرورة تخصيص ميزانية أكبر لتجديده بعبارة أخرى ميزانية أكبر لصحة المواطن.