تنشر «الصباح» طوال شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. والدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي. «الصّباح» تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة الخامسة عشرة مواقف اليهود تتبع المبحث مواقف اليهود من الرسول (ص) ومما يدعو اليه الى نتائج منها ما يثبت انهم كانوا يكفرون ويكذبون قال الله تعالى «ولما جاءهم من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون _ على الذين كفروا فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين» (البقرة -89) يفيد سياق الآية ان الذين ذكرتهم هم يهود المدينة الذين استقروا بها مع الاوس والخزرج وكانوا يخبرونهم بأن الله تعالى سيبعث رسولا ينزل معه كتابا يزيدهم به عزا وفعة على غيرهم ويعاقب غيرهم من المشركين فلما جاء رسول الله (ص) بما كانوا يخبرون به كفروا على غيرهم ويعاقب غيرهم من المشركين فلما جاء رسول الله (ص) بما كانوا يخبرون به كفروا ورفضوا الايمان به فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور اخو بني سلمة: «يامعشر يهود، اتقوا الله واسلموا، فقد تستفتحون علينا بمحمد ونحن اهل شرك، وتخبروننا انه مبعوث، وتصفونه لنا بصفاته، فقال سلام بن مشكم، احد بني النضير: «ماجاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي نذكره لكم. «فما هي اسباب انكار اليهود ما كانوا يبشرون به؟ ما صدر عن اليهود وهم يرفضون ما جاء به الرسول (ص) يثبت ان من اهم اسبابه الحسد اعتقد اليهود ان الله ميزهم على العالمين، وخصهم بالنبوّة والملك، لما خاطب شعبهم وامره بطرد الامم التي يدخل اراضيها، وعلل ذلك بقوله: «لانك انت شعب مقدس للرب الهك. اياك قد اختار الرب الهك لتكون له شعبا اخص من جميع الشعوب الذين على وجه الارض. «فسرّ اليهوج هذا الخطاب تفسيرا بجعله عاما يشمل كل اليهود في مشارق الارض ومغاربها وفي العهود كلها وتمسكوا بأن المنتسبين الى اليهودية في كل زمان ومكان، هم أبناء الله تعالى واحباؤه، فلما جاء الرسول (ص) من غيرهم، وادركوا حسب نصوصهم انه حقا هو الموصوف في كتبهم، حسدوه كما حسدوا عشيرته وأتباعه، فأنزل الله تعالى: «ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد اتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما» (النساء 54) يفيد سياق الآية ان الحسد الوارد فيها هو «حسد اليهود للنبي (ص) على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني اسرائيل «تمكن الحسد من اغلب يهود المدينة، فدفعهم الى البحث عن متنفس لما في داخلهم من حقد، فوجدوا في بث الفتنة بين الاوس والخزرج بالدرجة الاولى وبين المسلمين عامة بدهاء وحرفية يتقنها اليهود الذين يشعرون احيانا بأن الاقتصار على الحسد لايكفي، ولايمنع من انتشار الاسلام وتضاعف قوته ومناعته، فهم في حاجة الى مواقف اشد نقمة، واوسع تأثيرا، كاحراج الرسول (ص) في ملأ من الناس، واظهار تفرّقهم المعرفي عليه وهو سلوك لايختلف عما كان المشركون بمكة يمارسونه لتجريح الرسول (ص) واظهاره عاجزا عن مسايرة ادلتهم، وتحقيق مطالبهم. تقدم في الباب الاول ان المشركين بمكة سعوا الى ابراز تفوقهم المعرفي على الرسول (ص) وانهم استعانوا باليهود وغيرهم لتحقيق ذلك وسار على نهجهم يهود المدينة، وظنوا انهم سيحققون ما استعصى على المشركين ادراكه، فكرّروا الشؤال عن الروح، وعن الساعة، واضافوا اسئلة انكارية كقولهم: اتريد منا يا محمد ان نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقولهم: أحق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله فإنا لانراه متسقا كما تتسق التوراة؟ وسلكوا مسلك المشركين فطلبوا من الرسول (ص) ان يأتهم بكتاب من السماء، او يكلمهم الله تعالى، او ان يفجر لهم انهارا. وعملوا مثلهم على ان يجدوا مغمزا او نقيضه في فعل الرسول (ص) وسمح بعضهم لنفسه بأن يدعي ان الله تعالى في حاجة الى اليهود اكثر من حاجتهم اليه. دفع الغرور اليهود الى نقض العهود والى الغدر والتآمر. ذكر القرآن انهم لايوفون بالعهد، ولا يلتزمون بما عاهدوا عليه غيرهم، فقد سبق لهم ان نقضوا العهد مع انبيائهم، ونبذوا التوراة بعد ان عاهدوا على اتباعها فهم لايترددون في نقض عهودهم مع الرسول (ص) اذا شعروا بأن هيبتهم ومراكزهم القيادية في خطر، او بدا لهم ان االرسول (ص) والمسلمين في حالة ضعف، فلما انتصر المسلمون ببدر ورجعوا غانمين، اورد حديث لابن عباس ان الرسول (ص) جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: يامعشر يهود اسلموا قبل ان يصيبكم مثل ما اصاب قريشا قالوا: يامحمد لايغرنك من نفسك انك قتلت نفرا من قريش كانوا اغمارا، لايعرفون القتال، انك لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس وانك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى «قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المهاد» (آل عمران 12) في هذا الحديث موقفان أولهما للرسول (ص) وفيه تنبيه لما يمكن ان يحدث في المستقبل، واشارة الى ماقد يؤول اليه الامر من انكسار للسهود، ثم اقترح طريقة للتوقي من الشر القادم فليس في موقفه صلى الله عليه، اشعار بأنه سيكرههم على الاسلام، او انه سينقض العهد الذي التزم به ف وثيقة المدينة قابل اليهود هذا الموقف فسعوا الى التنقيص من قيمة ما حققه المسلمون ببدر من نصر على اشهر قبائل الجزيرة العربية واقواها مالا وعتادا، واكدوا ان المعركة لو كانت معهم لهزم فيها المسلمون، فاليهود ليسوا اغمارا، فهم محنكون وبارعون في الحرب كان موقفهم هذا اعلان حرب على المسلمين فهو يشعر بأنهم سينقضون عهدهم، صرح بذلك خبر ذكره ابن اسحاق فقال: «وكان اول من نقض العهد بينه وبين رسول الله (ص) من يهود: بنو قينقاع» ومن مظاهر الغدر ونقض العهود التي ارتكبها اليهود اتصالهم المتكرر بمشركي قريش والتحالف معهم على حرب المسلمين فكعب بن الاشرف «ذهب بعد بدر الى مكة وجعل يرثي قتلى قريش ويحرض على قتال النبي» واستخدم كعب وسائل كثيرة لتحقيق هدفه فشبب بنساء المسلمين وانتقل الى مكة عارضا على ابي سفيان ان يكون هو واليهود يدا واحدة لالحاق هزيمة بمحمد (ص) فما صدر عن بني قينقاع وكعب بن الاشرف ومن معه نقض صريح لوثيقة المدينة التي وافقوا عليها، والتزموا بأن لا يناصروا المتربصين بأمنها الخارجي، فهو شبيه بما يقوم بعضهم في عصرنا وفي غيره من العصور بالاستنجاد بالقوى الخارجية والمعادية لبلدهم، لتحقيق اهدافهم، والتغلب على من يخالفهم الرأي او العقيدة او الانتماء العرقي من ابناء وطنهم. التآمر على قتل الرسول (ص) أوردت الاخبار محاولات اليهود قتل الرسول (ص) ويقتصر البحث على ذكر ثلاث منها، حدثت الاولى لما ذهب الرسول (ص) الى بني النضير مستعينا بهم في دية رجلين قتلهما بعض الصحابة خطأ، عملا بما تضمنته وثيقة المدينة من ان المسلمين واليهود يشتركون في اداء الدية متى وجبت على احدهم، وتظاهر بنو النضير بأنهم سيستجيبون فقالوا: «نعم يا أبا القاسم، اجلس حتى تطعم، وترجع بحاجتك، فنقوم ونتشاور، ونصلح امرنا فيما جئتنا له وقعد الرسول (ص) ومن معه يترقبون في حين ذهب بنو النضير يتآمرون ويقترحون ان يصعد رجل منهم على ظهر البيت فيلقى على الرسول (ص) صخرة فيقتله مكر بنو النضير ومكر بهم الله فأنجى الرسول (ص) وهيأ له مبررات اخراجهم من المدينة، ذلك أنهم سيكررون محاولاتهم التي انطلق اعدادها بعد هجرة الرسول (ص) الى المدينة لما هددهم مشركوا مكة بالحرب، ان هم لم يخرجوا الرسول (ص) ومن معه من المدينة فكروا وقتها في الاستجابة لطلب قريش والتخلص من الرسول (ص) وممن معه ولكنهم عدلوا عن ذلك مؤقتا، ثم عادوا اليه وصمموا على تنفيذه بمكر ودهاء بعد معركة بدر فلما تلقوا رسالة من كفار قريش تحرضهم على قتل الرسول (ص) وتزينه لهم، اجمعوا على الغدر فأرسلوا الى النبي (ص) اخرج في ثلاثة من اصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا فان آمنوا بك اتبعناك، ففعل فاشتمل اليهود الثلاثة على خناجره فأرسلت امرأة من بني نضير الى اخ لها من الانصار تخبره بأمر بني النضير... اججت رسالة كفار قريش قوى الغضب والحقد، وما في نفوس بني النضير من عداوة للاسلام، ومن حسد للرسول (ص) ومن بغض للمسلمين فاختاروا الغدر على مواجهة الخصم ومنازلته، وزين لهم غرورهم المبني على الجبن ان يسعوا الى قتل الرسول (ص) غيلة فدعوه الى ان يخرج لهم محاورا ومعه ثلاثة من اصحابه، فيستقبله ثلاثة منهم بخناجرهم مكر بنو النضير/كما مكر قبلهم المشركون، وغاب عنهم ان تدبير الله تعالى فوق تدبيرهم وانه عاصم نبيه منهم، فقد انكشف امرهم وابطل كيدهم، ودارت عليهم دائرة السوء. ورغم سوء المصير الذي اصاب بني النضير، وكل من سار على نهجهم، فقد ظل التخلص من الرسول (ص) باغتياله هدفا عمل يهود المدينة على تحقيقه بشتى الطرق حتى بعد انكسارهم وخروج اغلبهم من المدينة، فقد صحح علماء الحديث خبر اليهودية التي أهدت رسول الله (ص) شاة فيها سمّ» واثبتت الروايات ان الواقعة حدثت بعد خيبر وان الرسول (ص) لم يقتلها حين كشف امرها، وجاء في بعضها انها بررت فعلتها برغبتها في التأكد من نبوة الرسول (ص) وذكر البعض الآخر انها اقدمت على فعلتها لتنتقم لأبيها وعمها وزوجها واخيها الذين قتلوا وهم يحاربون المسلمين. تكرر غدر اليهود وتآمرهم على قتل الرسول (ص) فكثر بذلك خرقهم لوثيقة المدينة وصدرت عنهم مواقف عدائية لاتختلف عن التي اظهرها المشركون بمكة وبعض الذين عرض عليهم الرسول (ص) الاسلام من خارج بلاد العرب. مواقف الحكام الذين دعاهم الرسول (ص) الى الاسلام بينت الاحاديث والوثائق التي تقدم ذكرها ان بعض الحكام تعامل باستعلاء مع ما دعاه اليه الرسول (ص) فكسرى الفرس لم يكتف بتمزيق كتاب الرسول (ص) بل امر عامله على اليمن ? باذان ? بأن يقتل الرسول (ص) ان هو لم يتب فموقف كسرى صريح ومعتمد منطق القوة المادية، اما هرقل ملك الروم، فاتخذ موقفا فيه غموض يجعله يقترب من واقف المنافقين، اتخذ النجاشي والمقوقس، موقفا فيه اكبار للرسول (ص) دون ان يشهرا اسلامهما اما المنذر بن ساوي، فجاء في كتابه الى رسول الله: «اما بعد يا رسول الله، فاني قرأت كتابك على اهل بحرين، فمنهم من احب الاسلام واعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود. فأحدث في ذلك أمرك. «فما جاء في هذا الكتاب وفي كتابه صلى الله عليه وسلم المتقدم الى المنذر بن ساوى يدلّ على انه اصبح عاملا للرسول (ص) على البحرين. يتضح مما تقدم انه أضيفت الى مواقف سكان بلاد العرب التي تقدم ذكرها، مواقف يتفق بعضها مع مواقف المؤمنين، ويدعم البعض الآخر ما يصدر عن المنافقين ويهود المدينة والمشركين، فكيف سيتعامل الرسول (ص) مع هذه المواقف: الداخلي منها والخارجي؟