القرآن هو معجزة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأول ما أوحي به من القرآن الى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الآيات الخمس الأولى من سورة العلق وافتتحت السورة بكلمة «اقرأ»، إنه أمر بالقراءة والقراءة تتبع الكلمات نظرا والنطق بها، وأيضا هناك القراءة الصامتة، أي تتبع الكلمات ولم ينطق بها. والقراءة هي نطق بكلام مكتوب أو محفوظ.في الحديث النبوي روي عن عائشة رضي الله عنها قولها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم» (العلق 15). فبماذا فسر المفسرون قول الله تعالى «الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم»، لنتتبع تفسيري التحرير والتنوير لابن عاشور وجزء «عمّ» للقرضاوي. يقول سماحة الشيخ الامام محمد الطاهر بن عاشور و«علم بالقلم، فعدل عن الاضمار لتأكيد ما يشعر به ربك من العناية المستفادة من قوله «اقرأ باسم ربك» وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبده اتماما لنعمة الربوبية عليه، وليجري على لفظ الرب وصف الأكرم، ووصف «الأكرم» مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغا للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة. والكرم: التفضل بعطاء ما ينفع المعطي، ونعم الله عظيمة لا تحصى ابتداء من نعمة الايجاد وكيفية الخلق والامداد. وقد جمعت هذه الآيات الخمس من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوصف الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف «الذي خلق» ووصف «الذي علم بالقلم» يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير اليه من الصفات مما تقتضيه الموصولية من الإيماء الى وجه بناء الخير الذي يذكر معها، ووصف «الأكرم» يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص. ومفعولا «علم بالقلم» محذوفان دل عليهما قوله «بالقلم» وتقديره: علم الكاتبين، أو علّم ناسا الكتابة، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبوحية النميري:
«كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل» ويتفاخر من يعرف الكتابة بعلمه وقال الشاعر: «تعلمت باجاد وآل مرامر وسودت أثوابي ولست بكاتب»
وذكر أن ظهور الخط في العرب أول ما كان عند أهل الأنبار، وأدخل الكتابة الى الحجاز حرب بن أمية تعلمه من أسلم بن سدرة وتعلمه أسلم من مرامر بن مرة، وكان الخط سابقا عند حمير باليمن ويسمى المسند، وتخصيص هذه الصلة بالذكر وجعلها معترضة بين المبتدإ والخبر للإيماء الى ازالة ما خطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة عليه لأنه لا يعلم الكتابة، فكيف القراءة، اذ قال للملك «ما أنا بقارئ» ثلاث مرات، لأنه بقوله «ما أنا بقارئ» اعتذار عن تعذر امتثال أمره بقوله «اقرأ»، فالمعنى أن الذي علم الناس الكتابة بالقلم والقراءة قادر على أن يعلمك القراءة وأنت لا تعلم الكتابة. والقلم: شظية من قصب ترقق وتثقف وتبرى بالسكين لتكون ملساء بين الأصابع ويجعل طرفها مشقوقا شقا في طول نصف الأنملة، فاذا بلّ ذلك الطرف بسائل المداد يخط به على الورق وشبهه. وقد تقدم عند قوله «إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم» في سورة آلة عمران. وجملة «علم الانسان ما لم يعلم» خبر عن قوله «وربك الأكرم» وما بينهما اعتراض. وتعريف «الانسان» يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الاعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الانسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم. وقد حصلت من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم اشارة الى ما يتلقاه الانسان من التعاليم، سواء كان بالدرس أو بمطالعة الكتب وأن تحصل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة: أحدهما الاخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب، فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها الى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية، والثاني التلقي من الأفواه بالدرس والاملاء، والثالث ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات، وهذان داخلان تحت قوله تعالى «علم الانسان ما لم يعلم»، وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفة الكتابة لا يحول دون قراءته، لأن الله علم الانسان ما لم يعلم، فالذي علم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة. وأشعر قوله «ما لم يعلم» أن العلم مسبوق بالجهل، فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يُعلم من قبل، أي فلا يُؤيسنك من أن تصير عالما بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية اشارة الى الاهتمام بالكتابة، وبأن الله يريد أن يُكتب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن، فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كُتّابا للوحي من مبدإ بعثته، وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم اخباره بأن الله علم الانسان بالقلم، إيماء الى استمرار صفة الأمية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها وصف مكمل لاعجاز القرآن، قال تعالى «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذن لارتاب المبطلون»، وهذه آخر خمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. وفي نفس الآيتين يقول الدكتور يوسف القرضاوي «ومن دلائل الأكرمية التي وصف الله بها نفسه أنه يعلم عباده ما يحتاجون اليه بواسطة الفطرة والمعقول أولا، ثم بواسطة الأنبياء المرسلة والكتب المنزّلة، ومن أهم هذه المسائل التي علم بها عباده «القلم»، هذه الأداة التي تعين على الكتابة التي يدون بها العلم وينقل بها العلم من فرد الى فرد، ومن جيل الى جيل ومن أمة الى أمة، ولولا هذا «القلم» ما وجدنا تراث الأمم على سعته واختلاف أبوابه منذ عرف الانسان الكتابة بين أيدينا اليوم. و«القلم» في عصرنا أصبح يمثل عالما يشمل كل ما يطبع، فلم يعد مقصورا على القلم الفردي الذي يمسكه الانسان بيده، بل أصبح يمثل قلم الفرد والمجتمع والدولة والمؤسسات الكبرى، من مطابع وما تفرع عنها وما أضيف اليه من أدوات بشرية يمثلها الأنترنات ونحوها «ويخلق ما لا تعلمون». ومن عناية القرآن ب«القلم» جاء القسم من الله تعالى به في سورة سميت باسمه من أوائل ما نزل من القرآن، وهي قوله تعالى «ن والقلم وما يسطرون» «علم الانسان ما لم يعلم» ومن نتائج وصفه تعالى بالأكرمية، والتعليم بالعلم، أنه علّم الانسان ما لم يعلم، فالانسان مخلوق قابل للتعلم، يكتسب العلم وينميه باستمرار كما قال تعالى «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل آية 78) ويقول الشاعر «تعلّم فليس المرء يولد عالما ٭ وليس أخو علم كمن هو جاهل»، فالمرء الذي يولد من غير علم يكتسب العلم ممن حوله، ومن الأرض التي يعيش فوقها، ومن السماء التي يجلس تحتها، ويكتسب العلم الديني من الأنبياء الذين بعثهم الله لهداية البشر ومن ورثتهم من العلماء، ومن مصادر علمهم الذي وثقوه للبشر، ويكتسب علوم الدنيا من أهلها الذين يتقنونها، ومن وسائلها المعلومة ومآلاتها المعروفة من الملاحظة والتجربة والتأمل. ومن هنا رأينا في عصرنا متكاثر المعرفة على الدوام وتزداد الانسانية كل يوم من المعارف والمعلومات ما تزداد «علم الانسان ما لم يعلم»، هذه الآيات الخمس الأولى هي أول ما نزل من القرآن، أما بقية آيات السورة فقد نزلت بعد ذلك بعد الاعلان عن الدعوة والاصطدام بالمجتمع القرشي الجاهلي، كما تجليه آيات السورة».
ومما جاء في تفسير القرطبي «قال علماؤنا، فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأول الذي خلقه الله بيده وأمره أن يكتب، والقلم الثاني أقلام الملائكة جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال، والقلم الثالث أقلام الناس جعلها الله بأيديهم يكتبون بها كلامهم ويصلون بها مآربهم. وفي الكتابة فضائل جمة، والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص به الآدمي» وفي ملاحظته لما قيل عن «الانسان» هنا آدم عليه السلام، علمه أسماء كل شيء حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى «وعلّم آدم الاسماء كلها» (البقرة 31) فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة وذكره آدم للملائكة كما عُلّمه، وبذلك ظهر فضله وتبين قدره، وثبتت نبوته وقامت حجة الله على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة للأمر لما رأت من شرف الحال ورأت من خلال القدرة وسمعت من عظيم الأمر ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما من قوم وقد مضى هذا في سورة البقرة مستوفى والحمد الله. وقيل «الانسان» هنا الرسول صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى «وعلمك ما لم تكن تعلم» (النساء 113)، وعلى هذا فالمراد «علمك» المستقبل، فإن هذا من أوائل ما نزل وقيل هو عام لقوله تعالى «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا» (النحل 78).